والثانية: أنه لما فيه من الحدة والحرافة المكتسبة من الإنفحة، صار سريع الاستحالة إلى الاحتراق. ولذلك صار يشيط فضول البدن ويزيدها فسادا، ويمنع فعل الأشياء الملطفة فيها.
وأما الجبن اليابس الحديث المتوسط بين الجبن الرطب والعتيق، فيغذو غذاء كثيرا قويا. أما كثرته، فلان أغلظ ما في البدن يصير جبنا. وأما قوته، فمن قبل أن الحرارة تصلبه بسرعة. وكلما ازداد فعل الحرارة فيه تأثيرا، ازداد هو صلابة وشدة. إلا أن غذاءه قد يختلف في جودته وزكاته على حسب اعتداله وتوسطه بين الجبن الرطب والعتيق، وانحرافه إلى إحدى الحاشيتين أكثر من الأخرى. فإن كان بعده من التوسط إلى الجبن العتيق أكثر، كان غلظه أزيد وحسبه للطبيعة أقوى واستحالته إلى الدخانية أسرع، متى كان مزاج المستعمل له حارا، أو إلى الحموضة متى كان مزاج المستعمل له باردا. فإن كان بعده عن التوسط والاعتدال إلى الجبن الرطب أكثر، كان غذاؤه أزيد وانحداره أسرع وبعده عن الفساد أكثر.
وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن الجبن يختلف في صلابته وليانته على ثلاثة ضروب: لان منه الصلب المتين المعلك. ومنه ما قد بلغ من جفافه ما عدم اتصال أجزائه وصار سريع التفتت. ومنه ما هو بعد مجتمع الاجزاء، إلا أنه قد صار فيه من الجفاف ما صيره قحلا متخلخلا اسفنجيا. وأردأ أنواع الجبن وأذمها، ما عدم اتصال أجزائه إلى أن صار سريع التفتت، لان ذلك دليل على فناء دسمه ورطوبته الجوهرية. ودونه في الرداءة ما كان صلبا علكا منتنا، لأنه دليل على كره لزوجته وغزارته وبعد انهضامه. وأحمد الأجبان وأفضلها ما كانت أجزاؤه مجتمعة، إلا أنها متخلخلة رفخة أسفنجية، وبخاصة إذا كان حديثا، لان ذلك دليل على لطافة أجزائه وقلة لزوجته وعلوكته وسرعة انهضامه.
ولديسقريدس في مثل ذلك قول قال فيه: إن الجبن الحديث يلين البطن، والعتيق حابس للبطن ولا سيما إذا سلق سلقة وعصر ماؤه وشوي بعد ذلك. وقول جالينوس فيه: إن ما لان من الجبن ورق، كان أفضل وأسرع انهضاما. وما صلب منه وثخن (1)، كان أذم وأبعد انهضاما. وأقوى ما يستدل به على سرعة انهضام الجبن وإبطائه، وأوضحه دلالة على ذلك الجشاء، لان ما كان من الجبن ينقص طعمه من الجشاء رويدا رويدا ويزول بسرعة، كان أحمد، لأنه دليل على سرعة انهضامه وانحداره عن المعدة. وما كان منه عسير التحلل من الجشاء بعيد الزوال منه، كان أردأ وأذم، لأنه دليل على غلظه وبعد انهضامه وعسر انحداره عن المعدة. ولذلك صار الجبن العتيق منيع الانحلال من الحشا لغلظه وبعد انحداره.