وأما اختلاف اللبن على حسب أوقات السنة، فيكون على ضروب، من قبل أن اللبن في أول الربيع، يكون أكثر ذلك أرق وأشبه بالماء. وفى آخر الربيع وأول الصيف، يكون أعدل وأفضل غذاء.
وفى سائر الصيف وأول الخريف يكون أثخن وأغلظ وأقل مائية. والسبب في ذلك: أن اللبن في أول الربيع يكون أكثر ذلك قريبا من وضع الحيوان جملة. وكل لبن يقرب من وضع الحيوان جملة، فهو أرق وأكثر مائية لاجتماع الرطوبات في أبدان الحيوان في مدة زمان الحمل، لانطباق الرحم وامتناع التحلل منه. وإذا اجتمعت الرطوبات في أبدان الحيوان في زمان الحمل، وجب أن يكون اللبن بالقرب من وضع الحيوان جملة أكثر مائية بالطبع، وأضر بالمعدة، لأنه يرخيها ويفسدها ويهيج القئ والغثاء ويلين خشونتها ويزلقها ويطلق البطن. فإذا مضى أربعون يوما وتوسط الربيع، أو صار إلى آخره، ودخل الصيف، فنيت تلك الرطوبات الفضلية من أبدان الحيوان واعتدل اللبن وانقاد للانفعال، وقويت الحرارة الغريزية على هضمه في الضرع وصار محمود الغذاء مربيا للأبدان. وإذا تمادى به الزمان وصار إلى آخر الصيف وأول الخريف، قوي حر الهواء على الأبدان ونشف بعض رطوباتها الجوهرية، وازدادت رطوبة اللبن قلة، وغلظ، وزال عن الاعتدال وصار مذموما غليظا بطئ الانهضام، حابسا للبطن لقلة مائيته وكثرة جبنيته.
ولذلك صار هذا النوع من اللبن كثيرا ما يتجبن في المعدة، ويحدث أمراضا خبيثة، لان اللبن المتجبن في المعدة مع إضراره بها، يولد بخارات تترقى صعدا، ويكون سببا وكيدا للاختناق وضيق النفس والصداع. فإن زاد الزمان به تماديا، وصار إلى الخريف وآخره، ازدادت رطوبته الجوهرية قلة، وصار في طبيعة اللبأ (1). ثم لا تزال رطوبته تتحلل رويدا رويدا حتى تقارب الفناء ويغلظ (2) ويجفو عن الانمياع والسيلان وينقطع أصلا.
ولهرمس في مثل هذا فصل قال فيه: إن أرطب ما يكون اللبن عند وضع الحيوان جملة، ثم تنقص رطوبته قليلا قليلا حتى تقارب الفناء، فيغلظ ويصير في طبع اللبأ.
فإن عارضنا معترض باللبأ وقال: فلم صار اللبأ أغلظ الألبان وأقلها رطوبة، وهو أقربها من وضع الحيوان جملة، وقد شرطت في ابتداء كلامك أن أرطب الألبان ما كان قريبا من وضع الحيوان جملة!.
قلنا له: إن اللبأ يطول لبثه في الضرع ويقيم مدة يتهيأ معها فناء رطوبته الفضلية وأكثر رطوبته الجوهرية حتى يجاوز المقدار في الغلظ. ولو توهمنا أن اللبأ يخرج من الضرع وقتا يصير إليه أو بعده بيوم، لما أمكن أن نجده إلا أرق الألبان وأكثرها مائية. ولكن لطول لبثه في الضرع، يقوى فعل الحرارة الغريزية فيه باطنا، وحرارة الهواء ظاهرا، وتقل رطوبته حتى تقارب الفناء، ويصير أغلظ الألبان وأثقلها.
ولذلك صار إذا حمل على رماد حار أو طبخ في قدر داخل قدر، فنيت رطوبته بسرعة وصار جبنيا. وإذا