والورشان والقنابر والسلوى والبط. ومنه ما هو دون ذلك أجمع كأنه في الدرجة الأولى من اللطافة، مثل الطواويس والكركي. فما كان من الطير في المرتبة العليا والدرجة الرابعة من اللطافة، كان أسرع الطير انهضاما وألطفه غذاء وأقربه من التحليل من الأعضاء، ولذلك صار أقلها غذاء. وما كان منه في المرتبة السفلى والدرجة الأولى من اللطافة، كان أغلظ الطير وأقله لطافة وأعسره انهضاما وأبعده من الانحلال من الأعضاء، إلا أنه أكثرها غذاء. وما كان متوسطا بين هاتين الحاشيتين كأنه في الدرجة الثانية أو الثالثة من اللطافة كان أيضا متوسطا في لطافته وغلظه وسرعة انهضامه وإبطائه. إلا أن ما كان منها في الدرجة الثالثة ألطف وأسرع انهضاما وأقل غذاء مما كان منها في الثانية، بقرب ما كان منها في الدرجة الثالثة من المرتبة العليا والدرجة الرابعة، وقرب ما كان منها في الدرجة الثانية من المرتبة السفلى والدرجة الأولى من اللطافة. وأذمها كلها السلوى لأنها غير صالحة في الانهضام وفى الغذاء.
فإن عارضنا معترض وقال: ما بال جالينوس ساوى بين مرتبة العصافير والفراريج في الغذاء وجعل القنابر أغذي من الفراريج؟ والعيان يبطل ذلك، لان الفراريج أعبل وأكثر لحما وأرطب، وما كان كذلك كان غذاؤه أكثر.
قلنا له: إن جالينوس لم يذكر في هذا الباب كثرة الغذاء وقلته الكائن بالطبع، بل إنما ذكر كثرة الغذاء وقلته الكائن بالعرض، لأنه إنما قصد في هذا الباب الكلام على مراتب اللطافة والغلظ وسرعة الانهضام وإبطائه. فأعلمنا بما هو من الطير لطيف سريع الانهضام قريب الانحلال من الأعضاء، وبما هو بطئ غليظ الانهضام بعيد الانحلال من الأعضاء. فلما أعلمنا بذلك، وقفنا على ما كان لطيفا سريع الانحلال من الأعضاء، فإنه وإن كان كثير الغذاء بطيئه، فإنه قليل الغذاء بالعرض، لأنه إذا انحل من الأعضاء بسرعة خلت الأعضاء منه وافتقرت إلى غذاء ثان، فقام عندها مقام القليل الغذاء. وما كان غليظا بطئ الانحلال من الأعضاء، فإنه وأن كان قليل الغذاء بطبعه، فقد يتفق له أن يكون كثير الغذاء بالعرض، لأنه لبعد انحلاله من الأعضاء وطول لبثه فيها، تستغنى الأعضاء عن غذاء مستأنف، فيقوم ذلك مقام الكثير الغذاء. ولذلك، صارت الكراكي والطواويس أكثر غذاء من البط، وإن كان من الواجب أن يكون البط أعني لكثرة دمه وزيادة رطوبته وقلة دم الكراكي والطواويس ونقصان رطوبتها إذ كان لحمها ليفيا عصبيا شبيها بلحم الأجنحة من كل طير. فلذلك صارت في طبيعتها أقل غذاء، وإن كان قد يتهيأ فيها أن تكون أكثر غذاء بالعرض، لغلظها وبعد انحلالها من الأعضاء.
فإن عارضنا وقال: لا، فلم ساويت لحم الكراكي والطواويس بلحم الأجنحة من كل طير على غلظ لحم الكراكي والطواويس، وبعد انهضامه؟ وجالينوس يقول: إن ألطف ما في الطير من الأعضاء وأسرعه انهضاما أجنحتها وأعناقها!.
قلنا له: إن اللطافة في الأعضاء تكون على ضربين: إما طبيعية، مثل لطافة لحم العضل، وإما عرضية مكتسبة، مثل لطافة اللحم المجاور للعظم. فلطافة الأجنحة والأعناق إنما هي عرضية لا طبيعية،