فيه أزيد من الحرارة كثيرا، كانت رطوبته مجاورة للمقدار المعتدل الا انه ينقسم ثلاثة اقسام: وذلك أن منه ما هو سيال مياع مثل دسم اللحم الأحمر الكائن من حيوان سمين، أعني الدهنية الموجودة في تخلخل اللحم السمين. ومنه الغليظ الجامد المحرم على بني إسرائيل في التوراة، مثل شحم الثرب (١) والكلى. ومنه السمين المتوسط بين هاتين المرتبتين مثل الشحم الرطب اللين المخالط للحم والعظم، أعني شحم الأضلاع والأكتاف والخواصر وغير ذلك (٢) مما أحلته التوراة لبني إسرائيل.
وأما الضربان (٣) الأول والثالث منها (٤): أعني الدسم والسمين، فان سيلانهما وانمياعهما يدلان على أن الغذاء المتولد عنهما متوسط بين الرقة والغلظ. وأما الضرب الثاني: أعني الشحم الغليظ الجامد، فان جموده وغلظه يدلان على أن الغذاء المتولد عنه غليظ لزج لان الشحم في طبيعته أغلظ من الدسم والسمين كثيرا. ولذلك قال جالينوس: ان الشحم على ضربين: لان منه ما هو لين رخو وهو الذي إذا ذاب بحرارة النار وبرد بقي بمنزلة الزيت العتيق الذي قد غلظ قليلا لقدمه. ومنه ما هو غليظ جامد وهو الذي إذا ذاب بحرارة النار وبرد، جمد بسرعة وغلظ، وهذا النوع من (٥) خاصة يكون على ضربين: وذلك أن منه ما هو من حيوان مائي مثل السمك. ومنه ما هو من حيوان ارضى مثل المواشي.
فما كان منه من حيوان مائي ذاب سريعا ولم يجمد سريعا. وما كان منه من حيوان ارضى، فإنه لا يكاد أن يذوب سريعا لكنه يجمد بسرعة. ولذلك صار شحم الحيوان المائي أكثر من دسمه، ودسم الحيوان الأرضي أكثر من شحمه. وقد يستدل على ذلك من جهتين: إحداهما: حسا والأخرى (٦) قياسا. أما من الحس فلانا إذا لمسنا لحم الحيوان الأرضي اكتسبت (٧) يدنا منه دسما زيتيا ودهنية ظاهرة. وإذا تطاعمناه وجدنا له عذوبة ودسومة. وأما الحيوان المائي فليس كذلك لأنا إذا لمسناه لم تعلق بأيدينا منه الدهنية الا اليسير جدا، إذا كان سمينا، وإذا تطاعمناه لم نجد من العذوبة والدسومة ما نجده للحيوان الأرضي.
ولذلك صار الانسان يقدر ان يأكل من الحيوان المائي ما لا يقدر <أن> يأكله من الحيوان الأرضي، من قبل ان عذوبة الحيوان الأرضي وكثرة دسمه تشبع بسرعة.
وأما من القياس فلان الحيوان المائي أكثر رطوبة بالطبع، والرطوبة إذا كثرت في الحيوان فضل أكثرها من غذاء الأعضاء واحتاجت الأعضاء إلى أن تقذف ما فضل من غذائها وترسله عنها إلى باطن البدن وعمقه، لأنه مغيض للفضول، فإذا صار هناك وكثر، انطبخ طبخا ثانيا وغلظ وجمد وصار شحما.
وأما الحيوان الأرضي، فليس كذلك لان رطوبته بالإضافة إلى رطوبة الحيوان المائي أقل كثيرا، وإذا قلت الرطوبة في الحيوان نقصت عن غذاء الأعضاء، واحتاجت الأعضاء إلى أن تسلبها إليها دائما