وفي تاريخ دمشق يا قاسم ما عزمت على سفر قط الا هيات هذه الأبيات مخاطبة لي ونصبا بين عيني وعدة في أذني ومسلية لي في غربتي ان الفهم إذا فهم المعنى يستحسنه والمستغلق إذا لم يفهمه استبرمه وأن يقول فيه المبرد ومكانته في العلم والأدب مكانته كان دعبل والله فصيحا وأن يقول فيه القاسم بن مهرويه ختم الشعر بدعبل وصار قوله:
لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب برأسه فبكى الشغل الشاغل للعلماء والأدباء والشعراء وان يتداوله الشعراء بينهم فأبو هفان يقول اخذه من قول مسلم بن الوليد:
مستعبر يبكي على دمنة * ورأسه يضحك فيه المشيب فجاء به أجود من قول مسلم فصار أحق به منه والأصمعي يستحسه ويقول أخذه من قول الحسين بن مطير الأسدي أين أهل القباب بالدهناء * أين جيراننا على الأحساء فارقونا والأرض ملبسة نور * الأقاحي تجاد بالأنواء كل يوم بأقحوان جديد * تضحك الأرض من بكاء السماء والمبرد يقول اخذ ابن مطير قوله هذا من قول دكين الراجز:
جن النبات في ذراها وزكا * وضحك المزن به حتى بكى وصاحب معاهد التنصيص يقول تداول الشعراء معنى بيت دعبل فقال الراضي لقرطبي:
ضحك المشيب برأسه * فبكى باعين كأسه وقال ابن نباتة المصري:
تبسم الشيب بذقن الفتى * يوجب سح الدمع من جفنه حسب الفتى بعد الصبا دلة * ان يضحك الشيب على ذقنه وفي الأغاني عن الحمدوني الشاعر سمعت دعبل بن علي يقول انا ابن قولي اي به اعرف:
لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب لرأسه فبكى وسمعت أبا تمام يقول انا ابن قولي:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحب الا للحبيب الأول قال الحمدوني وانا ابن قولي في الطيلسان:
طال ترداده إلى الرفو حتى * لو بعثناه وحده لتهدى (1) وفي تاريخ بغداد بسنده عن أبي طالب الدعبلي أنشدنا علي بن الجهم وليست له وظاهره انهما لغير دعبل ولكن ابن عساكر في تاريخ دمشق صرح بأنهما له فقال وله أي لدعبل وكان علي بن الجهم يستحسنها:
لما رأت شيبا يلوح بمفرقي * صدت صدود مفارق متجمل فظللت اطلب وصلها بتذلل * والشيب يغمزها بان لا تفعلي قال أبو طالب ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول جدي دعبل:
أين الشباب وايه سلكا * لا أين يطلب ضل بل هلكا لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب برأسه فبكى يا سلم ما بالشيب منقصة * لا سوقة يبقي ولا ملكا قصر الغواية عن هوى قمر * أجد السبيل إليه مشتركا وعدا بأخرى عز مطلبها * صبا يطامن دونها الحسكا يا ليت شعري كيف نومكما * يا صاحبي إذا دمي سفكا لا تأخذا بظلامتي أحدا * طرفي وقلبي في دمي اشتركا وكان لهذه الأبيات قسط عظيم من الشهرة والتداول بين الأدباء والشعراء والملوك والامراء شاعت وحفظها الناس حتى أن أبا نواس أشعر شعراء عصره قال فيها ما لا يقال الا في أحسن الشعر اعجابا بها. في تاريخ بغداد بسنده عمن سمع دعبلا يقول أنشدت أبا نواس أين الشباب البيت لا تعجبني البيت فقال أحسنت ملء فيك وأسماعنا قال وكان والله فصيحا وحتى ان مسلم بن الوليد أستاذه لم يأذن له في اظهار شعره حتى سمعها في الأغاني بسنده قال دعبل ما زلت أقول الشعر وأعرضه على مسلم فيقول لي اكتم هذا حتى قلت: أين الشباب وايه سلكا فلما أنشدته هذه القصيدة قال اذهب الآن فاظهر شعرك كيف شئت لمن شئت وحتى غنى به المغنون الجواري والرجال ففي الأغاني عن عمه عن أحمد بن الطيب السرخسي حضرت مجلس محمد بن علي بن طاهر فغنت مغنية:
لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب برأسه فبكى ثم غنت بعده:
لقد عجبت سلمى وذاك عجيب * رأت بي شيبا عجلته خطوب وما شيبتي كبرة غير انني * بدهر به رأس الفطيم يشيب فقلت لها ما أكثر تعجب سلمى هذه فعلمت اني أعبث بها لأسمع جوابها فقالت متمثلة غير متوقفة ولا متنكرة:
فهلك الفتى ان لا يراح إلى ندى * وان لا يرى شيئا عجيبا فيعجبا فعجبت والله من جوابها وحدته وسرعته وقلت لمن حضر والله لو أجاب الجاحظ هذا الجواب لكان كثيرا منه مستظرفا وبسنده قال دعبل خرجت إلى الجبل هاربا من المعتصم والمكاري يسوق بي بغلا وقد أتعبني كثيرا فتغنى بقوله:
لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب برأسه فبكى فقلت له وانا أريد ان أتقرب إليه ليكف عن حث البغل تعرف لمن هذا الشعر قال لمن فعل كذا وأفحش وغرم درهمين فما أدري من أيهما أعجب من هذا الجواب أم من قلة الغرم على عظم الجناية.
وبسنده عن أبي ناجية كنت مع دعبل في شهرزور فدعاه رجل إلى منزله فغنت جارية بقول دعبل: أين الشباب وأية سلكا فارتاح دعبل لهذا الشعر وقال قد قلته مذ سبعين سنة وحتى جعلها أبو تمام معرفا لدعبل وقائمة مقام النسب ففي الأغاني بسنده عن الفتح غلام أبي تمام كان أبو سعيد الثغري اشتراه له بثلاثمائة دينار لينشد شعره وكان غلاما أديبا فصيحا