وكان انشاد أبي تمام قبيحا فكان ينشد شعره عنه فقال سالت مولاي أبا تمام عن نسب دعبل فقال هو دعبل بن علي الذي يقول: ضحك المشيب برأسه فبكى. ويأتي ان الرشيد لما سمع قوله لا تعجبي البيت استحسنه واجازه بعشرة آلاف درهم وخلعة ومركب ونادمة وأجرى عليه رزقا سنيا.
وفي الأغاني عن أبي هفان: أنشدت يوما بعض البصريين الحمقى قول دعبل: ضحك المشيب برأسه فبكى فجاءني بعد أيام فقال قد قلت أحسن من هذا: قهقه في رأسك القتير ونوادر المتشاعرين الحمقى كثيرة فمنها ما في الأغاني بسنده عن دعبل كان لي صديق يقول شعرا فاسدا وانا أنهاه فأنشدني يوما:
ان ذا الحب شديد * ليس ينجيه الفرار ونجا من كان لا يعشق * من ذل المخازي فقلت له هذا لا يجوز البيت الأول على الراء والثاني على الزاي فقال لا تنقطه فقلت الأول مرفوع والثاني مخفوض فقال أنا أقول له لا تنقطه وهو يشكله. ومما ينتظم في هذا السلك ما حدثنا به بعض الأصحاب عن شاعر عراقي انه قال في موشحة له:
فاتك الدل سليمى يا سلوم * عريت يا سلم أفراس الصبا وقال فيها: ثم حاكته تباهى قعضبا فقلت له ما قعضب قال اسم حائك أما سمعت قول الحاج هاشم الكعبي في الحسين ع وأصحابه:
فباتوا على وجه الصعيد تلفهم * ثياب على منهن ما حاك قعضب فقلت له قعضب هنا السيف لا اسم حائك واشتهر بالهجاء اللاذع حتى أن بني مخزوم لما هاجاه رجل منهم يكنى أبا سعد نفوا أبا سعد عن نسبهم واشهدوا على ذلك خوفا ان يعمهم دعبل بهجائه وهذه غاية في الخوف من هجائه ليس فوقها غاية.
المفاضلة بينه وبين مسلم بن الوليد كان مسلم أستاذ دعبل وقد فضله البحتري على مسلم في الأغاني بسنده على البحتري انه قال دعبل بن علي أشعر عندي من مسلم بن الوليد لان كلام دعبل ادخل في كلام العرب من كلام مسلم ومذهبه أشبه بمذاهبهم وكان يتعصب له.
جرأته على الكبراء وقوة قلبه كان دعبل جريئا قوي القلب مقدما على هجو الخلفاء والأمراء وما كان هجوه لهم مخالفا لعقيدته فيهم وقد تفنن في ذلك واتى بالعجب العجاب وقول من قال إنه هجا من أحسن إليه ومن لم يحسن مبني على الظاهر والا فهجوه لهم كان لما يراه من سوء أفعالهم ولا سيما بالنسبة إلى أهل البيت ولم يمنعه احسانهم إليه من المجاهرة برأيه فيهم فهو يقول للمأمون كالمتهدد:
أيسومني المأمون خطة عاجز * أو ما رأى بالأمس رأس محمد يوفي على هام الخلائق مثلما * توفي الجبال على رؤوس القردد لا تحسبن جهلي كحلم أبي فما * حلم المشايخ مثل جهل الأمرد اني من القوم الذين سيوفهم * قتلت أخاك وشرفتك بمقعد شادوا بذكرك بعد طول خموله * واستنقذوك من الحضيض الأوهد يشير إلى قتل عبد الله بن طاهر الخزاعي الأمين في سبيل خلافة المأمون فلما سمع المأمون الأبيات لم يتغير على دعبل ولا غضب عليه ولا ناله بسوء بل كان غاية ما جرى له ان قال كذب والله متى كنت خاملا واني لخليفة وابن خليفة ومتى كنت خاملا فرفعني دعبل ويقول له إبراهيم بن المدبر أنت أجرأ الناس وأقدمهم حيث تقول هذا فقال أنا احمل خشبتي منذ أربعين سنة فلا أجد من يصلبني عليها ويقول في الرشيد وابنه المأمون خليفة متسلط:
قبران في طوس خير الخلق كلهم * وقبر شرهم هذا من العبر ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما * على الزكي بقرب الرجس من ضرر ويقول في أبي عباد وزير المأمون المعروف بشراسته:
أدنى الأمور لضيعة وفساد * امر يدبره أبو عباد خرق على جلسائه فكأنهم * حضروا لملحمة ويوم جلاد يسطو على كتابه بدواته * فمضمخ بدم ونضح مداد وكانه من دير هرقل مفلت * حرد يجر سلاسل الأقياد فاشدد أمير المؤمنين وثاقه * فاصح منه بقية الحداد ودير هرقل مستشفى المجانين وبقية الحداد أحدهم وقيل للمأمون انه هجاك فقال من أقدم على هجو أبي عباد مع جنونه كيف لا يقدم على هجوي مع حلمي ولما بلغت المأمون أبياته هذه في أبي عباد ضحك وكان إذا نظر إلى أبي عباد يضحك ويقول لمن بقربه والله ما كذب دعبل في قوله وكان المأمون بكمال عقله يحتمل ما يصدر من دعبل ويحلم عنه ولا يؤاخذه ولعل لميل المأمون إلى أهل البيت النبوي الطاهر اثرا في ذلك أما المعتصم فكان لا يحتمل من دعبل ما يحتمله منه المأمون بل كان يبغضه لما يبلغه عنه من قوله في بني العباس ولا بد أن يكون بلغه ما قاله في أبيه الرشيد بعد موته حتى أنه هم بقتله فبلغه ذلك فهرب إلى الجبل وقال يهجوه بهجاء مقذع في الأبيات البائية الآتية في خبره معه مع أن الدولة في عصره كانت في ابان عظمتها وانما بدأت بالانحطاط بعد ذلك ثم هجاه بعد موته كما يأتي هناك أيضا وهجا المتوكل بهذا البيت فيما حكاه محمد بن جرير عن عبد الله بن يعقوب بأقبح الهجاء ولا يعرف له ثان:
ولست بقائل بدعا ولكن * لأمر ما تعبدك العبيد ومر انه لما ليم على تعرضه لهجاء من تخشى سطوته قال انا احمل خشبتي منذ أربعين سنة فلا أجد من يصلبني عليها ثم ليم بعد ذلك فقال اني احمل خشبتي منذ خمسين سنة ولست أجد أحدا يصلبني عليها وهذا أكبر دليل على جرأته واقدامه على هجاء من يستحق الهجاء في نظره ولو أدى به إلى الصلب وفي الأغاني بسنده إلى أبي خالد الخزاعي الأسلمي قلت لدعبل ويحك قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد ووترت الناس جميعا فلو كففت عن هذا وصرفت هذا الشر عن نفسك فقال اني وجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم الا على الرهبة ولا يبالي بالشاعر وان كان مجيدا إذا لم يخف شره وعيوب الناس أكثر من محاسنهم وليس كل من شرفته شرف ولا كل من وصفته بمحاسن الصفات ولم تكن فيه انتفع بقولك فإذا رآك قد أوجعت