لم يكن شيئا مذكورا وهذا أخس الأحوال وأنزل المراتب المعدومية ثم صار قوة صرفة يتساوى طرفا الوجود والعدم إليه ثم صار مستعدا لوجود الإنسانية بعد طي مراتب الجمادية والنباتية والحيوانية وهذا حتى بلغ أول مرتبة الإنسانية وأدنى منازلها وهو الجنين في الرحم ثم إلى الطفولية وهكذا إلى أن يصير تام الخلقة كامل البنية فإذا كمل ظاهره وبدنه بالجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة حتى في الزينة البدنية من شعر الأطراف وقوة الجسمية من المحركة والمدركة أخذ في تكميل نفسه وتقوية باطنه الذي هو حقيقة ذاته وصورة وجوده وكلما أخذت نفسه في القوة والكمال أخذ بدنه في الضعف والانحلال والوهن والكلال شيئا فشيئا إلى أن بلغت النفس غايتها في القوة والجوهرية والاستقلال في الوجود من دون البدن فحدث حينئذ الموت الطبيعي للبدن فالموت الطبيعي للبدن بهذا المعنى لا لما ذكره الأطباء وغيرهم من أن عروض الموت الطبيعي للإنسان إنما يكون بسبب فناء الحرارة الغريزية له وتناهي القوة الجسمانية في الفعل والانفعال. والنفس وإن كانت جوهرا مجردا في ذاتها لكنها مادية في تأثيرها وتأثرها كما أشرنا إليه من أن هذا الوجه غير تام عندنا. فإن الفاعل لقوى البدن والحافظة لمزاجه والمفيض لحرارته الغريزية هي النفس المتدرجة في الكمال والاستكمال.
والقابل الأول هي الهيولى الأولى المعراة عن الكمية والمقدار وبرهان تناهي التأثير والتأثر لا يجري إلا في المنقسمات.
ثم إن النفس عند أوان نقصها وأول تكونها لم يكن عاجزة عن حفظ المزاج عن الفساد والزوال وضبط التركيب عن الانحلال والاضمحلال بل كان فعلها في البدن التكميل والإنماء والزيادة في التغذية على حد الاكتفاء فإذا قويت في التجوهر وكملت في الوجود كيف عجزت عما قويت عليه نفس الطفل والجنين بمراتب وضعفت عن إبقاء شيء مما كانت تحدثه أولا من كمية البدن والأعضاء في حالة الإنماء.
فالحق أن كل نفس بحسب جبلتها وفطرتها متوجهة إلى عالم آخر مرتحلة من حيث غريزتها الذاتية إلى مرحلة خارجة عن مراحل الدنيا مسافرة من أول منزل تكونها ومنذ أول حدوثها إلى الله تعالى لأنها جاءت منه فيعود إليه.