إن التفكر حال لست أجهله * فالله قرره في الآي والسور لولا التفكر كان الناس في دعة * وفي نعيم مع الأرواح في سرر الفكر نعت طبيعي وليس له * حكم على أحد يدري سوى البشر ولو يكون الذي قلناه ما نظرت * بالغا عيني إلى الأحوال والصور به المؤثر والأسماء قائمة * تنفذ الأمر في بدو وفي حضر اعلم وفقك الله أن الفكر ليس بنعت إلهي إلا إذا كان بمعنى التدبير والتردد في الأولى فحينئذ يكون نعتا إلهيا وأما الفكر بمعنى الاعتبار فهو نعت طبيعي ولا يكون في أحد من المخلوقين سوى هذا الصنف البشري وهو لأهل العبر الناظرين في الموجودات من حيث ما هي دلالات لا من حيث أعيانها ولا من حيث ما تعطي حقائقها قال تعالى ويتفكرون في خلق السماوات والأرض فإذا تفكروا أفادهم ذلك التفكر علما لم يكن عندهم فقالوا ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار فما عدلوا إلى الاستجارة به من عذاب النار إلا وقد أعطاهم الفكر في خلق السماوات والأرض علما أشهدهم النار ذلك العلم فطلبوا من الله أن يحول بينهم وبين عذاب النار وهكذا فائدة كل مفكر فيه إذا أعطى للمفكر علما ما يسأل الله منه بحسب ما يعطيه فمقام الفكر لا يتعدى النظر في الإله من كونه إلها وفيما ينبغي أن يستحقه من له صفة الألوهية من التعظيم والإجلال والافتقار إليه بالذات وهذا كله يوجد حكمه قبل وجود الشرائع ثم جاء الشرع به مخبرا وآمرا فأمر به وإن أعطته فطرة البشر ليكون عبادة يؤجر عليها فإنه إذا كان عملا مشروعا للعبد أثمر له ما لا يثمر له إذا اتصف به لا من حيث ما هو مشروع وليس للفكر حكم ولا مجال في ذات الحق لا عقلا ولا شرعا فإن الشرع قد منع من التفكر في ذات الله وإلى ذلك الإشارة بقوله ويحذركم الله نفسه أي لا تتفكروا فيها وسبب ذلك ارتفاع المناسبة بين ذات الحق وذات الخلق وأهل الله لما علموا مرتبة الفكر وأنه غاية علماء الرسوم وأهل الاعتبار من الصالحين وأنه يعطي المناسبات بين الأشياء تركوه لأهله وأنفوا منه أن يكون حالا لهم كما سيأتي في باب ترك الفكر والفكر حال لا يعطي العصمة ولهذا مقامه خطر لأن صاحبه لا يدري هل يصيب أو يخطئ لأنه قابل للإصابة والخطاء فإذا أراد صاحبه أن يفوز بالصواب فيه غالبا في العلم بالله فليبحث عن كل آية نزلت في القرآن فيها ذكر التفكر والاعتبار ولا يتعدى ما جاء من ذلك في غير كتاب ولا سنة متواترة فإن الله ما ذكر في القرآن أمرا يتفكر فيه ونص على إيجاده عبرة أو قرن معه التفكر إلا والإصابة معه والحفظ وحصول المقصود منه الذي أراده الله لا بد من ذلك لأن الحق ما نصبه وخصه في هذا الموضع دون غيره إلا وقد مكن العبد من الوصول إلى علم ما قصد به هناك فقد ألقيت بك على الطريق وهكذا وجده أهل الله فإن تعديت آيات التفكر إلى آيات العقل أو آيات السمع أو آيات العلم أو آيات الايمان واستعملت فيها الفكر لم تصب جملة واحدة فالتزم الآيات التي نصبها الحق لقوم يتفكرون ولا تتعدى بالأمور مراتبها ولا تعدل بالآيات إلى غير منازلها وإذا سلكت على ما قلته لك حمدت مسعاك وشكرتني على ذلك فابحث على كل آية عبرة وتفكر تسعد إن شاء الله تعالى وكذلك الآيات التي فيها النظر من هذا الباب الفكري مثل قوله تعالى أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ومثل قوله أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وكذلك ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل وقوله ألم تر إلى ربك كيف مد الظل الآية وكذلك آيات التدبر من هذا الباب مثل قوله أفلا يتدبرون القرآن واجعل بالك إذا ذكر الله شيئا من ذلك بأي اسم ذكره فلا تتعدى التفكر فيه من حيث ذلك الاسم إن أردت الإصابة للمعنى المقصود لله مثل قوله أفلا يتدبرون القرآن فانظر فيه من حيث ما هو قرآن لا من حيث ما هو كلام الله ولا من حيث ما هو فرقان ولا من حيث ما هو ذكر من قوله إنا نحن نزلنا الذكر فكل اسم له حكم وما عينه الحق في الذكر إلا حتى يفهمه عباده ويعلمهم كيف ينزلون الأشياء منازلها فتلك الحكمة وصاحبها الحكيم وقد مدح الله من شرفه بالحكمة فقال ويعلمه الكتاب والحكمة وقال وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وقال ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب
(٢٣٠)