العبد ربه ولا يعلم ذاته ولا نسبته إلى العالم فلا يتصور وجود هذه المراقبة لأنها موقوفة على العلم بذات المراقب بفتح القاف وثم طائفة أخرى قالت بصحة تلك المراقبة فإن الشرع قد حدد كما ينبغي لجلاله فهو معنا أينما كنا وهو على العرش استوى وهو في الأرض يعلم سرنا وجهرنا وهو في السماء كذلك وينزل إليها وهو الظاهر في عين كل مظهر من الممكنات فقد علمنا هذا القدر منه فنراقبه على هذا الحد فمراقبتنا للأشياء هي عين مراقبتنا إياه لأنه الظاهر من كل شئ فمن الناس من قال ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله يعني المراقبة وآخر بعده وآخر معه أو آخر فيه فمثل هؤلاء يصححون هذه المراقبة والمراقبة الثانية مراقبة الحياء من قوله ألم يعلم بأن الله يرى فهو يراقب رؤيته وهي تراقبه فهو يرقب مراقبة الحق إياه فهذه مراقبة المراقبة وهي مشروعة والمراقبة الثالثة هي أن يراقب قلبه ونفسه الظاهرة والباطنة ليرى آثار ربه فيها فيعمل بحسب ما يراه من آثار ربه وكذلك في الموجودات الخارجة عنه يرقبها ليرى آثار ربه فيها منها وهو قوله سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ولهذه المراقبة تعلق بالحق إذ لا فاعل إلا الحق والمراقبة دوام المراعاة بحيث أن لا يتخللها وقت لا يكون العبد فيه مراقبا فاعلم ذلك وتحققه تعلم شؤون ربك في نفسك وما يدركه من الموجودات بصرك وما يصل إليه فكرك وعقلك وما يشهدك في مشاهدتك وما تطلع عليه من الغيوب في كونك أو حيث كان ومن هنا تعرف خواطرك وللمراقبة جاءت الموازين الشرعية وهي خمسة موازين الفرض والندب والإباحة والحظر والكراهة وللمراقبة درجات عند أرباب الأنس والوصال من العارفين ومبلغها سبع مائة درجة وأربع وسبعون درجة وعند أرباب الأدب من العارفين ثلاث مائة درجة وتسع وسبعون درجة وعند الملامية من أهل الأنس سبعمائة وثلاث وأربعون درجة وعند الأدباء منهم ثمان وأربعون وثلاثمائة درجة ولها نسب إلى العوالم منها إلى عالم الملك نسبتان وإلى عالم الملكوت نسبة واحدة عند الأدباء من الطائفتين وثلاث نسب عند أهل الأنس إلى عالم الجبروت واعلموا أن الله تعالى أطلعني في ليلة تقييدي هذا الباب على أمر لم يكن عندي في واقعة وقعت لي برزخية قيل لي فيها ألم تسمع أن الدنيا أم رقوب قلت نعم قيل لي فاجعل لها فصلا في هذا الباب فاستخرت الله على ذلك (وصل) قال رسول الله ص إن للدنيا أبناء وإذا كان لها أبناء فهي أم لهؤلاء الأبناء ومن عادة الأم أن ترقب أبناءها لأنها المربية لهم ولها عليهم حنو الأمومة والحذر عليهم إن تؤثر فيهم ضرتها وهي الآخرة فيميلون إليها فتحفظهم من مشاهدة خير الآخرة فتشتد مراقبتها لأحوالهم ثم لتعلموا إن الدنيا هي الدار الأولى القريبة إلينا نشأنا فيها وما رأينا سواها فهي المشهودة وهي الحفيظة علينا والرحيمة بنا فيها عملنا الأعمال المقربة إلى الله وفيها ظهرت شرائع الله وهي الدار الجامعة لجميع الأسماء الإلهية فظهرت فيها آلاء الجنان وآلام النار ففيها العافية والمرض وفيها السرور والحزن وفيها السر والعلن وما في الآخرة أمر إلا وفيها منه مثل وهي الأمنية الطائعة لله أودعها الله أمانات لعباده لتؤديها إليهم وهذا هو الذي جعلها ترقب أحوال أبنائها ما يفعلون بتلك الأمانات التي أدتها إليهم هل يعاملونها بما تستحق كل أمانة لما وضعت له فمنها أمانة توافق غرض نفوس الأبناء فترقبهم هل يشكرون الله على ما أولاهم من ذلك على يديها ومنها أمانات لا توافق أغراضهم فترقب أحوالهم هل يقبلونها بالرضى والتسليم لكونها هدية من الله فيقولون في الأولى الحمد لله المنعم المفضل ويقولون فيما لا يوافق الغرض الحمد لله على كل حال فيكونون من الحامدين في السراء والضراء فتعطيهم الدنيا هذه الأمانات نقية طاهرة من الشوب فبعض أمزجة الأبناء الذين هم كالبقعة للماء والأوعية لما يجعل فيها فيؤثر مزاج تلك البقعة في الماء فإن الماء كله طيب عذب في أصله وهو المطر فإذا حصل في بقع الأرض وهي مختلفة البقاع في المزاج ظهر العذب في المزاج الحسن فأبقاه على أصله كما ورد طاهرا نظيفا وزاده من مزاجه طيبا وحلاوة زائدة على ما كان عليه وهو الماء النمير وبقعة أخرى جعلته ملحا أجاجا وبقعة أخرى جعلته قعاما مرا فأثر في الحال النقي هذه الأوعية والشرع إنما تعلق بأفعال الأبناء لا بالأم بل قال وبالوالدين إحسانا وبما قال ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا فما أوصى الله تعالى بهذه الأمور إلا لعلمه بأنه في الأبناء من يصدر منهم مثل هذه الأفعال فأمرهم إن يراقبوا هذه الأحكام في
(٢٠٩)