الزور مالوا إلى جانب العدم ورجحوه على الوجود ووصفوا بالكون ما ليس بكائن وجعله الله على لسان رسوله من الكبائر لأنه ما مدلول قولهم إلا العدم ومع هذا كله إن استطاع من هو من أهل طريق الله التعريض لا التصريح حتى يفهم عنه ما يريد إذا علم إن في ذلك منفعة دينية فليفعل فهو أولى ويحصل الغرض ويكون اللسان قد وفى ما تعين عليه من غير فحش في المنطق وهذا كله ما دام يسمى مؤمنا وأما إن كان هذا الشخص في مقام من كان الحق سمعه وبصره ولسانه فحاله غير حال المؤمن مع أنه من أهل الايمان واعلم أن الله تعالى ما خلق داء إلا وخلق له دواء والأدوية على نوعين دواء العامة وهو الذي يقدر عليه كل أحد والدواء الآخر دواء ملكي وهو الذي لا يقدر عليه إلا الملوك والأغنياء لنفاسته وغلو ثمنه فلا يقدر عليه إلا المتمكن من المال والسلطان وهكذا قسم الأدوية أهل الطب وصادفوا الحق في ذلك فأما الدواء العام النافع الداخل تحت قدرة كل أحد من غني وفقير وسوقة وملوك من داء جميع الذنوب والمعاصي فهو التوبة وإرضاء الخصوم من شروطها مما يقدر عليه من ذلك وعينه عليه الشارع إذا كان ذلك الداء مما ينبغي أن يرضى فيه الخصوم وإذا كان مما لا ينبغي فيتوب ولا يرضى خصمه فإنه إن أرضاه قد يقع في محظور أشد مما كان قد تاب عنه فلا يغفل عنه وأما الدواء الملكي فلا يستعمله إلا العارفون السادة من رجال الله وهم الذين يكون الحق سمعهم وبصرهم ولسانهم وهو قوله عقيب قوله ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه هذا خطاب عام ثم قال واتقوا الله هذا هو الدواء ومعناه اتخذوه وقاية بينكم وبين هذه الأمور المذمومة التي الغيبة منها فإذا اتخذتموه جنة تعاورت هذه الجنة سهام هذه الأفعال وهي قوية لا تنفذها هذه السهام فيكون المتقي بها في حمايتها ولا يكون الحق وقاية للعبد حتى يتلبس به العبد كما يتلبس المتوقى بالجنن من الدرع الحصينة وغيرها وصورة تلبسه أن يكون الحق سمعه ولسانه وجميع قواه وجوارحه في حال تصرفها فيما هي له فيكون نورا كله فنبه الله في كتابه على هذه الأدواء الملكية السلطانية مثل قوله تعالى فألهمها فجورها والغيبة من الفجور وتقواها أي الذي يتخذه وقاية من هذا الفجور ولم يجعل الفجور من أوصافها وإنما جعله مجعولا فيها من الملهم لها كما أيد هذا بقوله أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فما جعل التزيين له بل قال زينا لهم أعمالهم وقال زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ولما أضاف التزيين إليه سبحانه قال فهم يعمهون أي يحارون والحيرة من صفات الأكابر وصفة الحيرة في مثل هذا أنه الأمر في إيجاده للملهم المزين والمجعول فيه الملهم والمزين له مأمور باجتنابه وهو الاتصاف بما ألهم له وما زين من قبل أن يظهر بالفعل فهو مذموم غير مؤاخذيه حتى يتلبس به في الظاهر ثم قال في أمور من هذا الباب إنه رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه وهو البعيد من الرحمة فاجتنبوه أي وكونوا مع الاسم القريب من الرحمة ومن أسمائه سبحانه البعيد فمن اتخذ الحمق جنة ووقاية كما أمر لم تضره هذه الأشياء فإن الله تعالى ما نبهه على استعمال هذه الأدواء إلا لإقامة العذر منه إذا سئل عن مثل هذا والمؤمن غيب خلف جنته فهو في حمى فلا يخرج عن حماه والفاسق الذي لا غيبة فيه ليس بغائب خلف جنته بل هو خارج عنها لأن الفسوق الخروج فقال لا غيبة في فاسق فمن أخرج غيبا يستحق أن يكون غيبا إلى شهادة فقد أخطأ ولهذا أضاف الغيبة إلينا فقال ولا يغتب بعضكم بعضا فجعلنا نشأة واحدة ذات أبعاض فإن الجزء والتفصيل إنما يرد على الكل فما خرجنا عنا ولا وقعنا إلا فينا فشدد الأمر علينا في ذلك فإن القاتل نفسه حرمت عليه الجنة وهي الساترة فإن الشئ لا يستتر عن نفسه وكل من ذكر غائبا فقد صيره شهادة وغربه عن موطنه وموت الغريب شهادة فالمغتاب فاعل خير في حق من اغتابه وإن كان يكره ذلك ففيه منفعة كشارب الدواء الكرة وعسى إن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وإذا كان فاعل خير من غير قصد فهو ممن أجرى الله الخير لزيد على يديه فيكون جزاؤه جزاء من وفق لعمل خير من غير قصد في حق من اغتابه لكن ذلك مقصود لمن ألهمه إياه وسماه فجورا في حقه فيصلح الله يوم القيامة بين عباده لما يراه المظلوم من الخير الواصل إليه على يدي أخيه فيشكره على ذلك فيسعدان جميعا وفي الخبر الصحيح فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين عباده يوم القيامة فالغيبة وإن كانت مذمومة فهي من ذلك الوجه محمودة في حق من اغتيب فمال ذلك إلى الخير إذ كانت الجنة والوقاية الحائلة بينهما
(١٩٧)