لقربها من المدن وأوساخها ولما ينصب إليها من المدن من مبلات الكنان وقنوات الحمامات.
وأما السمك البحري فيكون على ثلاثة ضروب: لان منه ما يأوي إلى البحيرات القريبة من مصب الأنهار من جهة، وطرف البحر من جهة، والأنهار تنصب إليها دائما وهي تنصب إلى البحر. ومنه ما يأوي إلى البحيرات المنقطعة عن البحر ولا يتفرغ منها شئ إلى البحر، وإن كانت المنقطعة عن البحر والأنهار جميعا، فإنها لا ينصب إليها منها شئ وهي لا يتفرع منها شئ إلى البحر أصلا. فأفضل سمك الماء العذب وأقله لزوجة وسهوكة وأبعده من العذوبة وأقله شحما وألذه طعما وألينه لحما وأسرعه انهضاما، السمك الرضراضي المتولد في الأنهار العظام القوية المد، الجارية على الحجارة والحصى الرضراضي، الصافية الماء، البريئة من الأوساخ وأوساخ المدن ومزابلها لبعدها منها. وذلك أن قوة جري الماء ومصادمة الماء للسمك دائما وللحصى يكسر لحم السمك ويرخيه ويزيل عنه أكثر لزوجته وغلظه، لا سيما إذا كان في ماء ضحضاح (1) قريب من الأرض، لان السمك إذا كان قريبا من الأرض، كان أكثر لمصادمته للحصى، وصفاء الماء ونقائه من الأوساخ، أوساخ المدن ومزابلها، يزيل عنه أكثر حلاوته ويذهب بأكثر سهوكته وزهومته ويصيره قريبا من السمك اللجي على الحقيقة والصخري على المجاز، وإن كانت رطوبته أزيد قليلا بالطبع لعذوبة مائه ورطوبته. ولذلك صار أعذب وأحلى وأطيب طعما من السمك البحري في الجملة.
وأما السمك المتولد في الأنهار الصغار القليلة المد الجارية على الطين والحمأة الكثيرة الأوساخ والكدر، لقربها من المدن ومن أوساخها ومزابلها وانصباب قنوات الحمامات ومبلات الكنان إليها، فإنها في الجملة أكثر لزوجة وسهوكة وأغلظ لحما وأبعد انهضاما وأكثر حلاوة وأقل لذاذة وأردأ غذاء، لان قلة حركة الماء ولين جريه يحصر الرطوبات الغليظة في بدن السمك ويمنع من تحليلها، ويغلظ لحمه.
ووسخ الماء وكدورته وفساده لما يداخله في أوساخ المدن ومزابلها وقنوات حماماتها ومبلات كنانها يفيده سهوكة وزهومة وسرعة استحالة إلى الفساد.
وأما السمك البحيري فهو أذم الأسماك وأردأها وأكثرها سهوكة وزهومة وأغلظها لحما وأبعدها انهضاما وأكثرها حلاوة وأبعدها من اللذاذة. وأذم ما في البحيرات وأبعده من المشاكلة للغذاء وأكثره (2) لزوجة وسهوكة وغلظا وأسرعه (3) انقلابا إلى الفساد، سمك الآجام المنقطعة عن البحر والأنهار لان ماءها أبدا راكد (4)، دائم السكون، عديم الحركة، كثير العفونة والطين والحمأة، من قبل أن الأنهار لا تصب إليها شيئا فيبلو ماءها في كل وقت، ويتجدد ويرق ويلطف وهي لا يتفرع منها شئ في البحر فيغسل ماءها ويزول عنه بعض وسخه ونتنه، وأكثره مما يخرج منها. ومما يدل على ذلك سرعة فساد سمكها