ويقطع العطش المتولد عنها بمضادته لها، ويمنع حدة البخارات المكتنفة للقلب، ويشجع الطبيعة ويقويها على الفعل. إلا أنه متى وافى الحرارة الغريبة من القوة أكثر من مقاومته لها وتأثيره فيها، انفعل لها وفعلت فيه فعل النار في الماء خارجا وتفعله إلى ذاتها وجوهرها لخفته ولطافته، والتهب وصار زائدا في فعلها ومقويا لها، إلا أن ينقل بعض الأشياء المركبة تركيبا ثانيا مثل لعاب بزرقطونا أو لباب الخبز المحكم الصنعة المغسول بالماء مرات، أو الكعك المحكم الصنعة المغسول كذلك، ليغلظ ويثقل ويبعد انفعاله، وتضعف الحرارة عن مقاومته لبعده (١) وبعد انقياده لتأثيرها. فعند ذلك يقهرها ويفعل فيها بطبعه وبرودته ورطوبته، ويسكن لهبها، ويبطل فعلها، ويقطع العطش المتولد عنها.
والمختار من الماء ما صحبته حالتان (٢) محمودتان: إحداهما: من طبيعته وهيئته، والأخرى: من ينبوعه ومجراه. فأما الحال التي يجب أن تكون له من طبيعته وهيئته فهو أن يكون صافيا نقيا من الأوساخ والديدان وسائر الهوام سليما من العفونات والأقذار، من غير أن يكون له لون ظاهر أو طعم بين أو رائحة مدركة، لان الألوان والطعوم والروائح تدل على تركيب الكيفيات الأربع من فعل الطباع وتأثيرها. والماء فبسيط مركب تركيبا أوليا من كيفيتين مفردتين بسيطتين. فإن ظهر فيه شئ يدل على التركيب الثاني.
دل على مخالطة (٣) غيره له. ولذلك لم يمكن أن يكون له لون ولا طعم ولا رائحة. فإن يكن له لون فلمخالطة غيره له. فيجب أيضا أن يكون صافيا نقيا دالا على لطافة الهوائية وغلبتها عليه، وأن يكن له طعم، فيجب أن يكون عذبا لذيذا خفيفا على حاسة الذوق، وأن يكن له رائحة، فيجب أن تكون ذكية معراة من النتن والحمأة وسائر الكيفيات الدالة على عفونته وفساده وخروجه عن كيانه، لان ما كان من (٤) المياه كذلك، كان لذيذا عند الطباع سريع النفوذ في العروق، والتنفيذ من المعدن، والجولان في البدن بعيدا من تولد النفخ والقراقر.
وأما الحال التي يجب أن تكون له من ينبوعه وابتداء خروجه، فهو أن يكون ينبوعه وابتداء خروجه قبالة المشرق ومجراه نحو الشمال لتهب عليه ريح المشرق والشمال (٥) دائما، وتكون جريته سريعة قوية، سريعة المد على حصى رضراضي، أو رمل صاف نقي من التراب والوسخ، أو على طين حر عذب إما أحمر أو أسود، لان الماء الذي هذه حاله يكون لطيفا خفيفا سريع الحركة والانقلاب من البرودة إلى الحرارة إذا طبخ بالنار، ومن الحرارة إلى البرودة إذا برد في الهواء البارد اللطيف، لان في سرعة حركته وانتقاله من كيفية إلى كيفية ما دل على خفته ولطافته.
وأخف المياه وألطفها وأعدلها وأعذبها ماء المطر الحديث القريب العهد بالنزول من العلو <وبعده> (6) الجاري على الحجارة والرمل والحصى، وبعده الجاري على الطين الحر العذب، النقي