وجواهرها، وتحس غير محسوساتها مثل الحرارة والبرودة والتلذيع والتقطيع بما فيها من قوة اللمس وحس العصب. فقد بان أن الخياشيم، وإن أحست بتلذيع الحرافة والحموضة، فإنها لا تدرك ذلك بجوهرية الشم، بل إنما تدركه بما فيها من حس اللمس.
ففي هذا دليل على فساد ما أصلتموه وبطلان ما قدمتموه إذ طلبتم علة من غير أثرها وأجريتموها في غير معلولها.
وأما الذين قالوا أن لها دلائل إلا أنها غير موثوق بها، فإنهم قالوا إن الروائح، وإن كانت تدل على شئ من طبائع الأغذية، كانت (1) دلالتها ليست كدلالة الطعوم، من قبل أن اللسان قد تأتيه من الدماغ، من بين جميع الحواس، ست عصبات يقوى بها على إدراك محسوساته على الحقيقة. ولذلك صار لحاسة الذوق مع تمييزها للطعوم، أن تميز أيضا بين المشاكل والمخالف، والموافق والمنافر.
فأما حاسة الشم، فليست كذلك من قبل أنه ليس يأتيها من الدماغ إلا عصبة واحدة، والذي يأتيها من ذلك أيضا ليس بالكثير. ولذلك، لم تصل إلى إدراك محسوساتها على الحقيقة، بل إنما أدركت منها أجناسها فقط. أعني بأجناسها حواسها وأطرافها التي هي الطيب والمنتن. وأما ما بين ذلك من الوسائط والأنواع، فإنها لم تفرق بينها ولا ميزتها على الحقيقة. ولذلك، لم يوقع الفعل عليها اسما، لان الحاسة، لجفائها وغلظها، لم تؤدى إلى الفعل حقيقة محسوساتها. ولذلك اضطر إلى أن يسمي أطراف الروائح وحواشيها التي أدركنا باسمها مشتقة من أسماء الطعوم فقال طيب وكريه.
وأما الوسائط التي بينها، فإنه لم يوقع عليها اسما لكنه نسبها إلى حواملها فقال رائحة المسك ورائحة العنبر وغير ذلك. ومن قبل ذلك أيضا لم تميز الحاسة الروائح المركبة من جواهر مختلفة كما ميزت حاسة البصر (2) الألوان المركبة من أصباغ مختلفة بل إنما أدركت ما كان جوهره بسيطا مفردا.
والسبب في ذلك أن حاسة الشم في نفس بطون الدماغ بعيدة عن الخياشيم وموضع المشم، والدليل على ذلك أن إنسانا لو أخذ شيئا له رائحة قوية، ثم قربه من خياشيمه وألصقه بها، لما اشتم له رائحة دون أن يتنفس الهواء ويستنشقه ويجذبه إليه حتى يصل بخاره إلى الدماغ. ولذلك لم يمكن أن يصل إلى حاسة الشم من الشئ المشموم إلا بخاره المتحلل منه في الهواء فقط، لا الشئ في نفسه، من قبل أن الهواء إذا أحاط بالبخار وقبله (1) إليه نقله إلى الدماغ بالاستنشاق وأوصل قوته إلى الروح النفساني الذي في الدماغ. فإن كان المشموم بسيطا من جوهر واحد وكان مع ذلك ذكيا قبله الروح النفساني بالموافقة والمشاكلة. وإن كان كريها قبله بالانفعال له على سبيل الغلبة والقهر له، كانفعال الماء البارد للنار، وذلك مقاس من الشاهد لان إنسانا لو أخذ فتيلتين مشتعلتين وأطفأ (2) إحداهما وترك حمرة النار