وقوتها فيها، ثم صرها دون الفتيلة المشتعلة مقدار عرض إصبع أو إصبعين، لنظر إلى النار في الفتيلة المشتعلة العليا تنعكس راجعة إلى أسفل لتتصل بحمرة الفتيلة المطفأة وتتمكن منها وتشتعل فيها. فإن هو إذا أطفأ الفتيلة المشتعلة لم تطلها النار ولم تتصل بها ولم تؤثر فيها دون أن تدخل في وسط النار حتى تحتوي عليها وتفعل فيها فعل الضد في الضد. وكلما ازدادت الفتيلة المطفأة بردا قبل دخولها في نار الفتيلة المشتعلة كان أبعد لانفعالها.
فقد بان واتضح أن حاسة الشم تدرك الشئ الذكي بالموافقة والمشاركة، وتدرك الكريه بالانفعال. ولذلك صارت جميع الروائح إذا كانت مركبة من جواهر مختلفة لم يصل إلى الروح النفساني الذي في بطن الدماغ إلا أحد جواهره التي هو مركب منها وبخاصة متى كان مركبا من جوهر ذكى موافق للروح النفساني وجوهر كريه مخالف له لان الجوهر الموافق تصل قوته إلى الحاسة قبل وصول قوة الجوهر المخالف وذلك لجهتين:
إحداهما: أن الجوهر الذكي دليل على أن الحرارة الغريزية قد قويت على تلطيفه ونفت عنه فضوله وغلظه وصار لطيفا سريع التحلل مع البخار. ولذلك وصل إلى الروح النفساني بسرعة. وأما الجوهر المخالف الكريه، فهو دليل على ضعف فعل الطبيعة فيه وتركها لفضوله الغليظة الجامدة راكدة.
ولذلك ثقل وعسر انحلاله مع البخار. ولهذا لم يصل إلى الروح النفساني منه إلا ما لا مقدار له عند الحس بعد مدة طويلة.
والثانية: أن الروح النفساني لما كان في نفسه لطيفا روحانيا وكان في نفس بطون الدماغ بعيدا من مواضع الشم، لم يمكن أن يصل إليه من الشئ المشموم إلا روحانيته فقط دون جسمانيته. ولذلك لا يقبل من الشئ إلا ما شاكل جوهره وطبيعته إذ كان قبوله قبول موافقة ومشاكلة على ما بينا، إلا أن يكون الجوهر المخالف أقوى فعلا وأظهر تأثيرا فيقبله لقهره له وغلبته عليه.
وأما حاسة الذوق، فليست (1) كذلك من قبل أنها تباشر المحسوس نفسه بجوهريته وجسمانيته وجميع جواهره المخالف منها والموافق قبل أن يتصل ذلك بالروح النفساني والذي في بطون الدماغ، فيفعل كل جوهر منها في الحاسة بخاصته وطبعه، ولذلك صار كثيرا ما يخفى الجوهر الموافق عند الجوهر المخالف لان الحاسة التي في نفس اللسان، وإن قبلت الشئ الموافق بسرعة، فإنها قبل أن توصل قوته إلى الروح النفساني الذي في نفس بطون الدماغ ما قد أثر فيها الجوهر المخالف وفعل فيها فعلا لا يمكن معه أن يظهر فعل الجوهر الموافق مفردا. ومن قبل ذلك صارت الأشياء المركبة من جواهر مختلفة تظهر عند حاسة الشم بخلافها عند حاسة الذوق، لان حاسة الشم إنما يصل إليها من المشموم بخاره المتحلل منه في الهواء فقط. ولذلك، لا يمكن أن يصل إليها منه إلا ألطف ما فيه