موافق للروح النفساني. وما كان منه غير موافق للروح النفساني كان دليلا على كثرة فضوله وفساده وخروجه عن الحال الطبيعية ومنافرته لمزاج بدن الانسان. ويستدل على ذلك من بشاعته وكراهة رائحته وفساد جوهره في نفسه، إما لحرارة خارجة عن الطباع المعتدل، وإما لرطوبة عفنة. فإن كان فساده لحرارة خارجة عن الطبع المعتدل صار منتنا لان من شأن الحرارة إذا كانت كذلك ان تحدث في رطوبات الشئ غليانا وتنتن فضوله من غير أن تنقي منها شيئا، فيتولد عن ذلك بخارات غليظة منتنة كريهة الرائحة عند الحاسة.
وما كان هذا سبيله، كان غذاؤه مذموما جدا كثير الفساد، مولدا للعفونات المفسدة للمعدة المتبخرة إلى الرأس. وقد يستدل على أن الحرارة الخارجة عن الطباع تفعل مثل ذلك ما نشاهده من الحيوان إذا عدم حرارته الغريزية، وسكن تحريكها له، ونفيها للفضول عنه. وإن كان فساده عن رطوبة عفنة صار سهكا زهيما وكان غذاؤه أيضا مذموما.
كما قال جالينوس: إن ما كان من الأغذية زهيما أو سهكا أو كريه الرائحة أو الطعم، فغذاؤه ردئ مذموم، إلا أن الامر، وإن كان كذلك، فغذاؤه أقل رداءة من غذاء الأشياء المنتنة كثيرا. وقد يستدل على ذلك من السمك لأنا نجده ما دام طريا وحرارته الغريزية باقية فيه، فهو ذميم من غير نتن. فإذا زال عنه قوة فعل الحرارة الغريزية صار منتنا، وغذاؤه إذا كان ذميما أفضل من غذائه إذا كان منتنا. وإن كان البخار موافقا للروح النفساني كان دليلا على اعتدال جوهره وقوة فعل الحرارة فيه، وتصفيتها لأثفالها ونفيها لجميع الفضول الفاسدة عنه، ويستدل على ذلك من ذكاء رائحته وعطريته واستلذاذ الروح النفساني به.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كانت له رائحة ذكية، أو تطعمت فيه عطرية، فجوهره لا محالة جوهر لطيف قوى الحرارة. إلا أن حرارته دون حرارة البشع الكريه الرائحة، ودون ما كانت له حرافة يلذع بها جميع ما يلقاه ويسخن إسخانا بينا. ولذلك صارت الحاسة تسكن عنده وتميل إليه وتقلق عند الكريه الرائحة وتضطرب لاستبشاعها له ونفورها منه. فإن كان في الذكي الرائحة مع لذاذته فضل يبس قليل كان أعطر له وإذكاء لرائحته وأكثر موافقة للروح النفساني من غيره. وذلك لجهتين: إحداهما:
أن ما كان رطبا غليظا، غلظت رطوبته البخار ومنعنه من الوصول إلى الدماغ بسرعة. والثانية: أن الروح النفساني في طبيعته يابس، ولذلك صار الكافور، مع قوة برده، ذكي الرائحة جدا، وذلك لقلة رطوبته وغلبة اليبس على مزاجه.
وأما ما كان من النوع الثالث المتوسط بين الحاشيتين، فإنه وإن كانت حركته ضعيفة وتأثيره قليلا، فإنه دليل على توسطه اللطافة والغلظ. وهو على ضربين: إما أن يكون جوهره كثير الفضول فيكون بشعا كريها عند الحاسة دالا على فساد جوهره وضعف فعل الحرارة الغريزية فيه، إلا أنه لا محالة حار وإن كانت الحرارة فيه ضعيفة. ويستدل على ضعف حركته من قلة تأثيره في الهواء. وإما أن يكون