إلى المرضى، فألذهما عند المتناول لهما أوفقهما وأسرعهما انهضاما.
وأما اختلاف الأغذية من قبل جواهرها وغذائها المتولد عنها فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك منها اللطيف، ومنها الغليظ، ومنها المتوسط بين هاتين الحالتين.
فأما اللطيف فينتظم من اسمه ثلاثة معان (1). إما لطيف في قواه وإن كان الجوهر المتولد عنه مذموما مثل اللوف والشلجم وما شاكلهما. وإما اللطيف في انفعاله وسرعة انقياده لفعل الطبيعة وإن كان جوهره المتولد عنه أيضا ليس بصالح مثل القطف والقرع والبقلة اليمانية. وإما اللطيف في انفعاله وجودة جوهره معا مثل خبز الحنطة المحكم الصنعة ولحم الدراج والفراريج، فإن هذه الأغذية، مع سرعة انهضامها وانقيادها لفعل الطبيعة، تولد دما محمودا وتغذو غذاء فاضلا. ولهذه الجهة صار هذا الضرب من الأغذية من أوفق الأغذية وأبلغها في حفظ الصحة على الأصحاء وردها إلى المرضى. إلا أنه لما كان انحلالها من الأعضاء أسرع من انحلال غيرها من الأغذية الغليظة مثل لحم العجول والخنازير والضأن، كان ما تستفيده الأعضاء منها من القوة دون ما تستفيده من الأغذية الغليظة.
ولهذا ما قال جالينوس: إن التدبير اللطيف، وإن كان من أوفق الأشياء في حفظ الصحة على الأصحاء وبقائها عليهم، فإنه لا يكسب الأعضاء قوة قوية ولا خصبا بينا. ولذلك صار متى استعمل لحم الدراج والفراريج من كان كثير التعب دائم الحركة تحلل من أعضائه بسرعة وأكسبها ذبولا. فأما الأغذية اللطيفة في فعلها وتأثيرها فهي الملطفة للفضول المدقعة (2) للأثفال وهي على ضربين: إما أن تفعل بقوة محرقة وإما بغير إحراق. وما يفعل بالاحراق فيستدل عليه إما من رائحته، وإما من طعمه، وإما منهما جميعا لان الانسان يجد له، إما في رائحته وإما في طعمه وإما فيهما جميعا، حرارة وتلذيعا شديدا مثل اللوف والشلجم وسائر الأغذية الحريفة القطاعة، فإن هذا الضرب من الأغذية، وإن كان معه قوة على تلطيف الفضول وتفتيح سدد الكبد والطحال وتنقية الصدر والرئة من الرطوبات الغليظة اللزجة، فإنه قد يتخطى هذا الفعل ويتجاوزه إلى احراق الدم وفساده. ولذلك صار لا يحتمله إلا من كان بدنه مملوءا رطوبات لزجة وفضولا غليظة.
ولهذا ما قال جالينوس: إنه إنما ينتفع بالأغذية الحريفة من قد اجتمع في بدنه فضل بلغماني لزج قريب من الزجاجي. ولذلك وجب أن يتوقى دائما ويحذر الالحاح عليها لما فيها من قوة الاحراق للدم ولا تستعمل إلا بعد سلقها بالماء حتى تقارب النضج، ويرمى بذلك الماء عنها، وتطبخ بماء ثان (3) فتزول عنها أكثر حرافتها ويضعف فعلها، ويكون مع ذلك، المقدر لاستعمالها رجل ذو فطنة بصير بمقادير أوقات استعمالها من المزاج والسن والزمان ليجري الامر فيها على نهاية من التجرد لأنه إن أغفل ذلك لم يؤمن أن تخرج من حد الغذاء وتولد ضروبا من الفساد، من قبل أنها في ابتداء أمرها تسخن