وأما ثمر الأشجار الشامخة، فإن الرطوبة المتصاعدة إليها من الأرض لا تصل إليها إلا بعد كمال نضجها وقربها من الانعقاد والحلاوة، وذلك لبعد المسافة بين الأرض وبينها.
ففيما أتينا به دليل على أن العذوبة أقل حرارة وأزيد رطوبة من الحلاوة المحضة. ولذلك صارت دونها في اللذاذة والفعل، وصار غذاؤها أقل، وانحلالها من الأعضاء أسرع. ومن قبل ذلك صارت السدد المتولدة عنها أسهل انحلالا وأقرب بزوا (1) من السدد المتولدة عن الحلاوة المحضة. فإن اتفق أن يكون جرمها مع ذلك ملززا صلبا مثل الكمثرى، صارت مغرية لأنها تكون من جنس الأعضاء لاجتماع الصلابة والعذوبة فيها. وأما الحلاوة المنسوبة إلى الحرافة، فلما كان الأغلب على رطوبتها القلة والحدة، وجب أن تكون حرارتها أكثر من حرارة الحلاوة المحضة، ورطوبتها أقل كثيرا، ولذلك نسبت إلى الحرارة واليبس في آخر الدرجة الثالثة، إلا أنها لقرب حرارتها من التوسط والاعتدال، صار فيها قوة تجلو وتغسل وتلطف وتنفي الفضول عن المعدة، وتنقي ما فيها من الرطوبات الغليظة العفنة، وليبسها وقربها من الحرافة صار لها قوة تلذع المعاء وتهيجها إلى دفع ما فيها من ثفل الغذاء. ولذلك صار انحدارها مع الثفل أخص بها من التطريق (2) للغذاء، وصارت السدد المتولدة عن الحلاوة المحضة أقل كثيرا.
وأما الدسومة فتدل على حرارة وليانة في آخر الدرجة الثانية، ولذلك صارت قريبة من الحلاوة في اللذاذة والجلاء والتحليل، لان فيها شيئا (3) من لطافة، إلا أن رطوبتها أغلظ كثيرا. ولذلك ثقلت على الحاسة وعسر نفوذها في المسام وامتنع انهضامها وبعد انحلالها من الأعضاء، ذلك لدسمها ولزوجتها وغلظ رطوبتها. ولهذه العلة صارت كثيرا ما تسد المسام وتحقن البخارات في باطن العروق والمواضع الخالية (4) من البدن دائما حتى تغلي البخارات هناك وتحدث ألما ولذعا. وما يصل إلى البدن من غذاء الدسومة قليل جدا من قبل أن اليسير منها إذا وصل إلى الأعضاء انتفخ فيها وربا وطال لبثه فيها، وقام اليسير من غذائها مقام الغذاء الكثير من غيرها. ولذلك صارت زائدة في غلظ الكبد والطحال، وصارت السدة المتولدة عنها عسيرة أكثر وجدا.
وللفاضل أبقراط في هذا قول قال فيه: إن الطعام الحلو والدسم يشبعان سريعا. أما الدسم فلجهتين: إحداهما: أنه للزوجته ودهنيته يطفو على الطعام بدءا ويعوم عليه، ثم يختلط به ويغلظه ويمنعه من الهضم. فإذا بدأ في الانهضام لين خمل المعدة وأزلق الطعام قبل تمام هضمه (5). والثانية:
أن الذي يصل منه إلى العروق والأعضاء أيضا ينتفخ فيها ويربو حتى يملأها ويسدها وتضطر القوة الجاذبة للغذاء إلى السكون وتصير سببا قويا لقطع شهوة الطعام.