حارة رطبة باعتدال. وأما ما يحدث في الحاسة أذى فإنه يفعل ذلك بقوة مؤذية مؤلمة للحاسة مفرقة للاتصال. وذلك يكون إما بإفراط جمع، وإما بإفراط تفريق، لان الجمع المجاوز للاعتدال يجمع أجزاء اللسان ويضغط بعضها ببعض، فيتفرق اتصالها وارتباطها.
ولذلك قال جالينوس أن اليبوسة متى كانت في الدرجة الرابعة فعلت فعل الحرافة. وأما إفراط التفريق فيكون بقوة قطاعة تحل الرباطات وتفرقها. وهي على ضربين: إما أن تفرق وتسخن المزاج مثل الحرافة والمرارة والملوحة، وإما أن تفعل ذلك من غير إسخان مثل الحموضة. وإنما اختلفت طعوم الأغذية من قبل تغيير مزاجاتها، واختلاف تأثير القوتين الفاعلتين في القوتين المنفعلتين. أعني بالقوتين الفاعلتين: الحرارة والبرودة، وأعنى بالقوتين المنفعلتين: الرطوبة واليبوسة. وذلك أن الحرارة إذا فعلت في الرطوبة واليبوسة، أحدثت ضروبا من الطعوم، والدليل على ذلك أنا نجد أصل كل طعم من عنصرين: أحدهما: رطب مائي، والاخر: يابس أرضى، كالذي نشاهده من الثمار في ابتداء لونها لأنا نجدها إما رطبة مائية مثل القثاء والبطيخ وما شاكل ذلك، وإما يابسة أرضية مثل البلوط والرمان والتفاح والخوخ وما شاكل ذلك، حتى إذا تمادى بها الزمان وقبلت جوهر الأرض ورطوبة الماء ولطافة الهواء وطبختها الحرارة الغريزية من باطنها وحرارة الهواء من ظاهرها، انتعشت ونمت ولانت أرضيتها وانعقدت رطوبتها وانتقلت إلى طعوم شتى على طبيعة النبات التي هي منه، ومقدار حرارته من برودته وكيفية رطوبته الجوهرية في الغلظ واللطافة والتوسط بين ذلك.
ولذلك، صار انتقال الثمار على ضروب لان منها ما ينتقل من العفوصة إلى الحلاوة بلا توسط طعم ثالث مثل التمر وما شاكله. ومنها ما لا ينتقل إلا بتوسط طعم ثالث مثل العنب فإنه لا ينتقل من العفوصة إلى الحلاوة إلا بتوسط الحموضة لأنه ينتقل بدءا إلى الحموضة ثم إلى الحلاوة. وما كان انتقاله بلا وسيط كان على ضربين: إما أن تثبت صلابة جرمه على حالتها وينتقل جوهره إلى الحلاوة مثل الشاهبلوط (1) وما شاكله، وإما أن تتغير صلابة جرمه وتلين مع تغير جوهره وطعمه مثل الكمثرى والرمان، والسبب في ذلك: أن العفوصة لما كانت في طبيعتها أرضية باردة يابسة، وجب أن يكون انتقالها على ما هي عليه بما ضاد مزاجها وخالفه، والمضاد لمزاجها في الحرارة والرطوبة. إلا أن ذلك ربما كان عن قوة فعل الحرارة فقط، أو عن كثرة، وربما كان عن زيادة الرطوبة وكثرتها، وربما كان عن قوة فعل الحرارة فقط، أو عن كثرة الرطوبة معا. وليس معنى قولي عن قوة فعل الحرارة فقط، أو عن كثرة الرطوبة فقط هو أنه قد يمكن في شئ من الثمار الانتقال عن العفوصة إلى طعم آخر بغير رطوبة تغذوه وحرارة تطبخ غذاءه، إلا أنى لما رأيت الحرارة في بعض النبات ضعيفة جدا مثل الخشخاش والبزر قطونا وما شاكلهما، وفى بعضه قوية جدا مثل الفلفل والثوم وما شاكلهما، وفى بعضه معتدلة مثل العنب والتين وما شاكلهما بسبب انتقال ما كان من الثمر ضعيف الحرارة إلى كثرة الرطوبة فقط، وما كان منه قوي الحرارة بسبب انتقاله