وأما ما كان من الأغذية مركبا من قوتين متضادتين حتى تكون قوة جرمه مخالفة لقوة مائيته ورطوبته، مثل أن تكون قوة جرمه أرضية فائضة، وقوة جوهره ورطوبته حديدة ملطفة كالعدس والكرنب من النبات، والطيهوج والقنابز من الطير، لان قوة جرم كل واحد منها فائضة بطيئة الانهضام، وقوة مائيته حديدة ملطفة سريعة الانهضام، ولذلك صار متى تناول الانسان جرم أحدها مع مرقته ورطوبته، طلبت الرطوبة الانحدار والخروج لحدتها، ومنعتها قوة الجرم عن ذلك لشدة قبضها، وحدث بينهما مجاذبة ومحاربة ومصارعة حتى تتولد عن ذلك أمغاص ورياح نافخة، لغليان الرطوبة المحتقنة، فلا يزال ذلك دائما حتى يتفق لاحد الضدين الخروج فتبطل عاديته وأذيته. فإن اتفق أن تكون قوة البطن مستعدة للانحدار، قوي فعل الرطوبة على فعل الجرم وانحدرت بسرعة بمعونة قوة البطن لها، لأنه متى صار شيئان شيئا واحدا وكانت الأسباب متكافئة، فالغلبة للشيئين دون الواحد ضرورة، وكذلك إن اتفق أن تكون قوة البطن متهيئة لحبس الطبيعة، قوي فعل الجرم على فعل الرطوبة، وعاقها عن الانحدار، ودامت الأمغاص والرياح حتى يتهيأ انحدار أحد الضدين. فلهذه الجهة، صار العدس هابطا حابسا للبطن في قوم، ومطلقا لها في غيرهم لأنه متى تناوله من كانت طبيعته قريبة القوة من الانحدار، قوي فعل الرطوبة، وأعان على إطلاق البطن. ومتى تناوله من كانت طبيعته بعيدة القوة من الانحدار، قوي فعل الجرم وأعان على حبس البطن، وولد رياحا ونفخا وقراقر مؤذية من غليان الرطوبة المحتقنة.
ومن قبل ذلك، وجب على من أراد استعمال شئ من هذه الأغذية أن يبتدئ بسلقه ويرمي بمائه الذي سلقه به لتزول عنه حدة رطوبته ويلطف جرمه، ويظهر له تدبير محمود في حبس البطن. ومن أحب أن يكون فعله في ذلك أقوى وتدبيره أحمد، فيسلقه مرتين أو ثلاثا ويرمي بالمياه التي يسلقه بها، ثم يستعمله كيف أحب. فقد بان السبب الذي له صار العدس والكرنب يطلقان البطن في بعض الناس، ويحبسانها في غيرهم.
وأما السبب الذي له صار العسل محمودا عند قوم يذكرون أنه ملين للبطن حافظ للصحة، ومذموما (1) عند قوم يزعمون أنه حابس للبطن مهيج للأمراض. فإن ذلك يكون من قبل ملاءمته لمزاج بدن المستعمل له، أو مخالفته له لان من شأن كل غذاء أن يزيد فيما شاكل مزاجه، ويقوي فعله، وينقص مما خالف مزاجه، ويضعف فعله. والعسل في طبيعته حار يابس فهو إذا زائد في الحرارة واليبوسة ومقو لفعلهما، وناقص من الرطوبة والبرودة ومزيل لفعلهما. والمرة الصفراء فهي حارة يابسة، فالعسل إذا زائد فيها ومقو لفعلها. ولذلك، صار متى تناول العسل من كان ممرورا قد غلب على مزاجه الحرارة واليبوسة، زاد في حرارته وصار هيولي للمرة الصفراء حتى يصير هو وهي شيئا واحدا ويصير سببا قويا لتجفيف الثفل وحبس البطن، إلا أن يوافي في المعاء بعض الانجراد (2) فيلذعها بحدته ويسحجها (3) ويصير شيئا عرضيا للاسهال الكائن من قروح الأمعاء.