شرابا ممزوجا، مزاجا معتدلا، بماء شديد البرد. وقول لجالينوس في هذا: وأما أنا فإني كنت أكتفي في مثل هذه الأوقات بحسو الشعير المحكم الصنعة. إلا أني كنت أصير مقدار كيفية الطعام والشراب في كل واحد من الناس على حسب عادته. لان من كان عادته استعمال الثلج، احتاج إلى أن يبرد شرابه بالثلج، ومن كان عادته شرب الماء السائل من العيون والماء المبرد في الهواء، فليس به حاجة إلى استعمال الثلج لكنه متى تعب في حمة الصيف وحس بحرارة قوية، سكن قليلا حتى يهدأ من تعبه، ثم اقتصر على شرب الماء البارد السائل من العيون، أو ماء قد برد من الليل في هواء بارد، وجعل بالغداة في مزملة لتحفظ برده. ويحذر استعمال الثلج إن لم يكن قد جرت عادته به لان الثلج، ون لم يتبين منه في أبدان الشباب من الضرر ما يحسون به بسرعة، فإن مضرته تجتمع رويدا رويدا وتزيد من غير أن يشعروا (1) بها، حتى إذا جاوزوا (2) سن الشباب وصاروا إلى سن الكهول، وقعوا في أمراض يعسر برءها ولا يبرأون منها أصلا، إما من علل الأحشاء، وإما من علل المفاصل والعصب، لان الثلج إنما يفعل في كل واحد من الناس في أضعف أعصابه وأقربها حسا.
* * * وأما التدبير الملطف الذي نفع بالأغذية اللطيفة في فعلها وإن كان جوهرها ليس بالمحمود، فينتفع به كثيرا من كان في بدنه فضول نية كثيرة اللزوجة والغلظ لمن كان به سدة في كبده أو جشاء في طحاله. ولذلك قال جالينوس: قد يفتح (3) التدبير اللطيف سدد الكبد ويحلل جشاء الطحال ويصغر مقداره ويرده إلى الحالة الطبيعية. وقال في موضع آخر: إني لأعرف قوما ممن كان يعرض لهم الربو كثيرا، فلما استعملوا التدبير الملطف، بلغ من انتفاعهم به أن سكن عنهم حتى لم يجدوا (4) منه شيئا، ولم يعرض لهم منه بعد ذلك إلا الشئ اليسير في الندرة. وقال في فصل آخر قال فيه: وإني لأعرف قوما كثيرا كان بهم وجع الكلى والمفاصل، من غير أن يتولد في مفاصلهم حجارة، فخرج بعضهم من العلة خروجا تاما، وخف عنهم وعن بعضهم كثير من العلة بالتدبير الملطف، أراد بالأغذية الملطفة للفضول، مثل الاسكنجبين والفجل وما شاكل ذلك.
وأما الصرع، فإنه متى كان يسيرا وتودر، فإنه، بالحمية والتدبير اللطيف من ابتداء الامر، برأ برأ كاملا. وإن كان قد طال به واستصعب أمره، فإن التدبير الملطف، وإن لم يبرئه، فقد ينتفع به منفعة ليست باليسيرة. وإن كان من الواجب على من أراد حفظ صحته، أن لا يكثر الالحاح على هذا النوع من التدبير الملطف، أعني الأغذية الحريفة والمالحة والمرة، وإن كانت ملطفة للفضول، ولا سيما متى كان الغالب مزاج المستعمل لها المرار، لأنه لا (5) ينتفع بهذا التدبير إلا من قد اجتمع في بدنه فضول