توسطا معتدلا مثل السخونة اللذيذة المتوسطة بين الحرارة والبرودة والليانة (1) المتوسطة بين الصلابة والرخاوة.
وأما الخاصي: فهو ما كان معتدلا بالإضافة إلى كل مزاج حائد عن الاعتدال، فصار معتدلا بإضافته إليه، ورده إلى التوسط والاعتدال.
مثال ذلك: أن الانسان متى كان صفراويا قد غلب على مزاجه الحرارة واليبوسة، كان المعتدل من الأغذية عنده، والأفضل في صلاح حاله ما كان منها باردا رطبا ليقمع ببرده ورطوبته حدة حرارة مزاجه العرضية ويرطب يبسه ويرده إلى التوسط والاعتدال. فقد بان ان المعتدل يقال على معنيين: إما معتدل موافق ومشاكل لمن كان مزاجه صحيحا لملائمته له وزيادته فيه، وإما منافرا ومخالفا لمن كان مزاجه حائدا عن الاعتدال لمضادته له ونقله إياه إلى التوسط والاعتدال.
وعلى هذا الوزن والمثال يجرى القياس في الأسنان (1) والأزمان والبلدان والمهن والعادات، لأنه لا يشك أحد من الطبيعيين أن المعتدل من الأغذية عند الشبان غير المعتدل عند المشايخ. والمعتدل في زمان الربيع غير المعتدل في زمان الخريف. والمعتدل في الصيف غير المعتدل في الشتاء. والمعتدل في البلدان الشمالية غير المعتدل في البلدان الجنوبية. والمعتدل عند أهل الرياضة والتعب غير المعتدل عند أهل الدعة والسكون، إذ كان أهل التعب والرياضة يحتاجون من الغذاء ما كان أغلظ وأعسر انهضاما وأبطأ انحلالا من الأعضاء. وأهل الدعة والسكون يحتاجون من الغذاء إلى ما كان لطيفا سريع الانهضام سهل التحلل من الأعضاء.
وأما تدبير الأبدان على حسب استحصافها وتخلخلها على هذا المثال، وذلك أنه متى كان البدن متخلخلا سريع التحلل للبخارات جعلنا ما يستعمله صاحبه من الغذاء ما كان كثيرا في كميته، غليظا لزجا في كيفيته، ليملأ المسام بكثرته ويشدها بغلظه ويعسر انحلاله منها لان الغذاء إذا كان قليلا رقيقا، مع سعة المسام وتخلخلها، لم يؤمن عليه ان يتحلل أكثره ويخرج من المسام بسرعة ويعدم الأعضاء كثيرا من الغذاء. وإذا كان الغذاء كثيرا غليظا ملا المسام وسدها وعسر انحلاله منها، ولم تحتج منه الا ما كانت الطبيعة محتاجة إلى اخراجه.
ومتى كان البدن كثيفا مستحصفا مانعا للبخارات من التحلل والخروج، جعلنا ما يستعمله صاحبه من الغذاء قليلا في كميته رقيقا سائلا في كيفيته، لان الغذاء إذا كان كثيرا غليظا مع ضيق المسام وكثافتها، اجتمع في البدن من بقايا الانهضام الثالث الكائن في الأعضاء مقدار لا يؤمن معه حدوث علل مزمنة وبخاصة أوجاع العصب والمفاصل. وإذا كان الغذاء رقيقا سيالا سهل خروجه من المسام الضيقة بسرعة ولم يبق منه في البدن الا مقدار حاجة الطبيعة إليه في تغذية الأعضاء، وسلم البدن من أذيته.