فأما الطعام اللطيف فإنه، لخفته وسرعة انقياده، لا يمكنه مقاومة الكثير من المرار لكنه يستحيل ويتشيط (١) بسرعة، وينتقل إلى طبيعة المرة حتى يصير هو وهي شيئا واحدا، فيتوهم من كانت هذه حاله أن مزاجه ممرور وإن كان مزاج بدنه، على الحقيقة، مرطوبا لأنه قد يمكن أن يكون مزاج البدن مرطوبا بلغمانيا، وما يجتمع في معدة صاحبه من المرار مقدارا أكثر، وذلك لسعة الشعبة التي تصير إلى المعدة من المرارة وعظمها. ولذلك، قد يمكن أن يكون مزاج البدن ممرورا قوى الحرارة، وما يجتمع في معدة صاحبه من المرار مقدارا أقل <و> (2) وذلك لضيق الشعبة التي تصير إلى المعدة من المرارة وصغرها، من قبل أن حرارة المزاج إنما تكون من كثرة الجزء المري المخالط للدم الجوال معه إلى جميع البدن. وكثرة اجتماع المرار في المعدة إنما تكون من سعة الشعبة المتصلة بها من المرارة. فربما كانت هذه الشعبة واسعة والدم المري المخالط للدم الجوال معه في جميع البدن قليلا، فيكون ما ينصب من المرار إلى المعدة مقدارا أكثر، ومزاج البدن في نفسه قليل المرار.
وربما كان الجزء المري المخالط للدم كثيرا والشعبة المتصلة بالمعدة من المرارة ضيقة فيكون ما ينصب إلى المعدة من المرار مقدارا أقل ومزاج البدن في طبعه محرورا لكثرة الجزء المري المخالط للدم.
وأما اختلاف الأبدان بحسب طبائعها وأمزجتها فيكون أيضا على ضربين: وذلك أن من الناس من الحرارة على مزاجه أغلب إما طبعا منذ أول مرة، وإما عرضا حالا حادثا. ومنهم من البرودة على مزاجه أغلب إما طبعا أيضا، وإما عرضا. فمن كانت الحرارة على مزاجه أغلب كان متى ورد إلى معدته طعام لطيف رفعته الحرارة لخفته إلى أعلى المعدة، وبقي هناك طافيا عواما في الجزء العصباني من المعدة البعيد من موضع الطبخ إذ موضع الطبخ من المعدة إنما هو الجزء اللحمي الأسفل منها المجاور لحرارة الكبد والمرارة، فإذا لبث الطعام في أعلى المعدة زمانا حمي بقوة الغليان والبخار المتصاعد إليه واستحال وتشيط، وانتقل من جنس المرار وأحدث في فم المعدة لذعا وألما، وولد عطشا قويا وجشاء دخانيا.
ومتى ورد معدة من كانت هذه حاله طعام غليظ ثقيل بطئ الانهضام، قاوم الحرارة بغلظه وهبط سفلا بثقله، واستقر في موضع الطبخ من المعدة، وتمكنت الحرارة منه واحتوت عليه وقوي فعلها فيه، وجاد طبخه وكمل انهضامه.
وأما من كانت البرودة أغلب على مزاجه، فان الطعام إذا ورد إلى معدته لحقه ضربان من الفساد، وذلك أنه إما أن يزلق بلزوجة البلغم ورطوبته وينحدر إلى المعي قبل كمال نضجه ولا يلبث فيها إلا يسيرا، وإن وافى منها شيئا من الفضول الغليظة البلغمانية تفجج هناك وغلظ وعسر انحداره،