منتقى الأصول - تقرير بحث الروحاني ، للحكيم - ج ٧ - الصفحة ٢٨٦
وإذا ثبت ان المراد الاستعمالي هو المعنى الظاهر كان هو المراد الجدي قطعا لما تقدم من أن قصد الحكاية انما هو بما قصد تفهيمه لا بغيره.
وبالجملة: ما يمكن ان يقصد تفهيمه هو ظاهر الكلام فتكون دلالته على المستعمل فيه قطعية - كالنص - بمقتضى البيان المزبور، كما أن دلالته على المراد الجدي قطعية لان المفروض انه قصد الحكاية بما قصد تفهيمه فبمقتضى ذلك تكون دلالة الكلام على المرادين الاستعمالي والواقعي قطعية.
وبذلك لا يبقى فرق بين النص والظاهر في المدلول الفعلي لكل منهما وان دلالة كل منهما عليه قطعية فأي وجه لتقديم النص على الظاهر؟.
وقد يقال ان احتمال وجود القرينة المتصلة بالنسبة إلى الكلام الظاهر وغفلة الناقل لنا عنها في مقام السماع أو النقل، موجود. وانما يدفع بأصالة عدم الغفلة التي عليها مبنى العقلاء في أمورهم. وهذا الأصل لا يعتنى به مع وجود النص على خلاف الظاهر فيسقط الظاهر عن الدلالة القطعية على مدلوله.
ولكن هذا لو تم في نفسه فإنما يتم لو كان احتمال الغفلة معتدا به وإلا فلا مجال له.
هذا ولكن المشكلة المزبورة انما يظهر اثرها في بعض الموارد كما لو كان المعنى الآخر الظاهر معنى مباينا للمعنى الظاهر فيه.
واما الموارد الأخرى التي تجعل من مصاديق تقديم النص على الظاهر فيمكن حل المشكلة فيها وهي متعددة:
الأول مورد ورود الدليل الظاهر على الوجوب أو الحرمة وورود النص على الترخيص في الترك أو الفعل فان المشهور هو حمل دليل الالزام على أصل الرجحان من استحباب أو كراهة ويمكن البناء على ذلك بالالتزام بما ذهب إليه المحقق النائيني (قدس سره) في صيغة الامر والنهى من عدم دلالتهما وضعا على الالزام، وانما يدلان على مجرد الطلب والزجر. غاية الامر ان العقل يحكم بلزوم الامتثال إذا لم يرد ترخيص من الشارع واما مع ثبوته فلا يحكم بوجوب الامتثال.
وعليه فورود النص على الترخيص - فيما نحن فيه - يرفع موضوع حكم العقل بالالزام ولا يصطدم مع ظهور الامر أو النهى أصلا.
الثاني: مورد المطلق والمقيد.
ويمكن ان يقال في الجمع بينهما: بان أساس استفادة الاطلاق هو احراز كون المتكلم في مقام البيان وهذا يستفاد غالبا من ظهور الحال وليس من طريق قطعي.
وعليه فيمكن ان يجعل ورود الدليل المقيد رافعا لهذا الظهور سواء ارجع إلى التصرف في المراد الاستعمالي بحيث يكشف عن عدم كونه في مقام تفهيم المطلق أو رجع إلى التصرف في المراد الجدي بأن يكشف عن عدم كونه في مقام الجد بتمام المدلول.
فان كلا منهما كاف في رفع التنافي وان كان الأول أولى اعتبار لان الالتزام بإفادة المطلق استعمالا مع عدم ارادته منه جدا في جميع هذه المطلقات على كثرتها مستبعد جدا، إذ ليس في ذلك داع عقلائي واضح. وقد نبه على هذه الجهة الفقيه الهمداني (قدس سره) في بعض كلماته الفقهية.
ومن هنا ظهر الكلام في العام والخاص لو التزم برجوع العام إلى المطلق وان دلالة الأداة على العموم تتبع ما يراد من المدخول.
واما لو التزم بان الدلالة على العموم وضعية فالكلام فيه نؤجله إلى مجال آخر خشية الإطالة.
الثالث: ما إذا ورد دليل على تعلق الحكم بأمر ذي اجزاء وورد دليل آخر يدل على تعلقه ببعض اجزائه كما ورد في أدلة التيمم ما ظاهره لزوم مسح الوجه وورد ما ظاهره كفاية مسح الجبهة والجبينين فإنهما متعارضان بدوا، إذ الوجه اسم لمجموع اجزائه فلا يصدق على الجبين وقد بنى الأصحاب على حمل مسح الوجه بعضه حملا للظاهر على النص وقد عرفت ما في ذلك من اشكال ويمكن ان يقال ان إضافة الفعل إلى الوجه تارة يراد بها تعلق الفعل ببعضه كما لو قال: " لمست وجهه ".
وأخرى يراد بها تعلقه بتمامه كما لو قال: " غسلت وجهه " ومثله غيره من الأمور المركبة فإنها قد تصدق على الكل وقد تصدق على البعض.
وإذا ثبت اختلاف موارد الاستعمال فظهور مسح الوجه في إرادة مسح تمامه لا يكون الا بواسطة السياق وهذا الظهور السياقي انما يكون لو لم يكن نص على كفاية مسح البعض ومع النص لا يستظهر العرف من السياق إرادة تمام الوجه فتدبر والله سبحانه ولى التوفيق.
ثم إنه ذكر صاحب الكفاية في أواخر كلامه عن موارد الجمع العرفي: بأنه لا فرق فيما بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا، فيقدم النص أو الأظهر وان كان بحسب السند ظنيا على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا.
وهذا الامر ذكره لدفع ما قد يتوهم من عدم تقديم النص الظني السند على الظاهر القطعي السند من جهة حصول التعارض بين دليل اعتبار السند في الظني ودليل اعتبار الظاهر في القطعي، والنسبة بينهما هي العموم من وجه.
ولكنه توهم فاسد المنشأ، وذلك لأنك عرفت أن ورود النص يستلزم سقوط الظاهر عن ظهوره. وعليه فبما ان دليل الحجية يتكفل التعبد بصدور كل ما كان امرا ممكنا ولا يلزم منه محذور على تقدير ثبوته واقعا، لم يكن مانع من التعبد بصدور النص، إذ لا محذور على تقدير ثبوته لعدم صلاحية الظاهر لمصادمته، بل هو ناف للظاهر ومسقط له، فتدبر.