باستحالة ما سأل عنه، وأن غرضه في السؤال ورود الجواب، ليكون لطفا وثانيها:
إنه عليه السلام لم يسأل الرؤية بالبصر، ولكن سأله أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي تضطره إلى المعرفة، فتزول عنه الدواعي والشكوك، ويستغني عن الاستدلال، فخفف المحنة عليه بذلك، كما سأل إبراهيم عليه السلام: (رب أرني كيف تحيي الموتى) طلبا لتخفيف المحنة، وقد كان عرف ذلك بالاستدلال. والسؤال وإن وقع بلفظ الرؤية، فإن الرؤية تفيد العلم، كما يفيد العلم الإدراك بالبصر، فبين الله سبحانه له أن ذلك لا يكون في الدنيا، عن أبي القاسم البلخي وثالثها: إنه سأله الرؤية بالبصر على غير وجه التشبيه عن الحسن، والربيع، والسدي، وذلك لأن معرفة التوحيد تصح مع الجهل بمسألة الرؤية، ومعرفة السمع تصح أيضا معه، وهذا ضعيف، لأن الأمر، وإن كان على ما ذكروه، فإن الأنبياء لا يجوز أن يخفى عليهم مثل هذا، مع جلالة رتبتهم، وعلو درجتهم.
(قال لن تراني): هذا جواب من الله تعالى، ومعناه: لا تراني أبدا، لأن (لن) ينفي على وجه التأبيد، كما قال: (ولن يتمنوه أبدا) وقال: (لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) علق رؤيته باستقرار الجبل الذي علمنا أنه لم يستقر، وهذه طريقة معروفة في استبعاد الشئ، لأنهم يعلقونه مما يعلم أنه لا يكون، ومتى قيل: إنه لو كان الغرض بذلك التبعيد، لعلقه سبحانه بأمر يستحيل، كما علق دخول الجنة بأمر مستحيل، ومن ولوج الجمل في سم الخياط؟ فجوابه: إنه سبحانه علق جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها دكا، وذلك مستحيل لما فيه من اجتماع الضدين.
(فلما تجلى ربه للجبل) أي: ظهر أمر ربه لأهل الجبل، فحذف، والمعنى أنه سبحانه أظهر من الآيات ما استدل به من كان عند الجبل، على أن رؤيته غير جائزة. وقيل: معناه ظهر ربه بآياته التي أحدثها في الجبل لأهل الجبل، كما يقال:
(الحمد لله الذي تجلى لنا بقدرته)، فكل آية يجددها الله سبحانه، فكأنه يتجلى للعباد بها، فلما أظهر الآية العجيبة في الجبل، صار كأنه ظهر لأهله. وقيل: إن تجلى بمعنى جلى، كقولهم حدث وتحدث، وتقديره: جلى ربه أمره للجبل، أي:
أبرز في ملكوته للجبل ما تدكك به، ويؤيده ما جاء في الخبر: (إن الله تعالى أبرز من العرش مقدار الخنصر، فتدكدك به الجبل). وقال ابن عباس: معناه ظهر نور ربه