وللفاضل أبقراط، في غذاء المواشي، قول قال فيه: ان ما كان من الحيوان يرعى في المزارع والغياض، فهو أخف وألطف مما يعلف في المنازل والدور. من قبل انه متواتر الحركة دائم التعب ويستنشق أيضا هواء لطيفا جافا، فيقل لذلك أكثر رطوبته الفضلية، وتزول فضول بدنه ويعتدل مزاجه. وكذلك ما كان يرعى الحشيش الغض والعشب اللطيف، فهو أفضل مما كان يرعى النبات الرطب. وما كان يرعى ورق الأغصان الرطبة، فهو أفضل وألطف مما كان يعتلف الثمر نفسه. وما قل أكله وشربه فهو ألطف وأفضل مما كثر أكله وشربه.
وأما اختلاف غذاء الحيوان على حسب سمنه وهزاله فيكون على ثلاثة ضروب. وذلك أن من الحيوان السمين جدا، ومنه الغث البين الهزال، ومنه المتوسط بين هاتين الحالتين. وما كان منه مجاوزا (1) للمقدار في الشمس، كان مذموم الغذاء جدا إذا كان من خاصة الشحم على ما بينا مرارا، الاضرار بالمعدة والهضم جميعا لأنه يطفو على الطعام بدءا ويربو وينتفخ ويشبع سرعة. فإذا اختلط بالطعام غلظه بلزوجته ومنع من هضمه حتى إذا اخذ في الهضم لين خمل المعدة وأكسبه لزوجة وسلاسة حتى يصير ذلك سببا لضعف القوة الماسكة وشدة القوة الدافعة، ولذلك صار كثيرا ما يحدث عنه إما زلق المعدة والمعاء فيمن كان مزاج معدته مرطوبا، وإما بخارات دخانية من جنس المرار فيمن كان مزاج معدته محرورا، من قبل ان الحرارة تشتعل في الدسم باطنا كاشتعال النار في الشحم والزيت ظاهرا. ولذلك تلطفت الأوائل في اصلاحه بالصنعة والعمل وأشارت باتخاذه مشويا بملح كثير ونار جمر قوية لتنشف النار أكثر رطوبته المذمومة وتذهب بعاديته لتقارب الاعتدال، ومنعت من مسح ظاهره بشئ من الزيت خوفا ان يسد الزيت مسام جلده، ويحقن الرطوبات المذمومة في باطنه، ويمنع من انفشاشها وخروجها. وأمرت أيضا من ذلك الا يستعمل من الحيوان السمين الا لحمه الأحمر فقط لان اللحم الأحمر المعرى من الشحم، وان كان من حيوان سمين، فهو أحمد وأفضل من اللحم المخالط للشحم، ولو كان من حيوان غير سمين، وذلك لجهتين: إحداهما: أن اللحم الأحمر المعرى من الشحم، وإن كان في نفسه دسما من حيوان سمين، فليس فيه من غلظ الشحم ما يلصق بالمعدة ويكسبها لزوجة وسلاسة ويستحيل فيها ويفسد، من قبل أن الرطوبة التي فيه رقيقة سيالة سريعة الانهضام في غاية الاعتدال والصحة. ولذلك صار فيها من كثرة الغذاء وقوته وبعد انحلاله من الأعضاء ما يفيد البدن قوة حسنة.
والثانية: لما فيه من لطيف الدسم المخالط للحم يفيد الدم دهنية ودسما لتغذية الحرارة الغريزية ونمائها، إذ كان غذاء الحرارة الغريزية انما هو من لطيف الدسم الكائن في الدم، لان الدسم هيولى للحرارة وعنصرها بالطبع وهو أحد الأسباب الذي وجب به الا يغذى (2) المرضى بشئ من اللحمان ولا غيرها من الأشياء الدسمة، كيلا تجد الحرارة العرضية المولدة للحمى مادة تغتذي بها وتشتغل فيها، فيكون