لان السكر منه يوجب أن يطفئ نور النفس الانسية، وغلبة النفس البهيمية، وإظهار القبيح والفواحش وعدم العقل والحبوة (١) والمروءة جملة. ومن أجل ذلك صار السكر محرما على كل ملة، ومذموما عند كل أمة، لأنه يمحو محاسن الوجه ويطفئ نور العقل ويفسد الفكر والرؤية، ويزيل الذهن ويبطل الحس ويصير المميز الفاحص ثبالا (٢) لا حس <له> ولا حركة، وكسفينة بغير ملاح ولا مدبر، وجيش بلا قائد ولا سائق، ولا إمام له ولا مهدي. وأما أهل اللوم والطيش فإنه يخرجهم إلى المرار <و> كثرة الكلام والمهارشة والتنقل في أماكن الجلساء، ثم يفتح قردية وطاووسية وسبعية، ثم يغريهم بذكر المفاخر والتغالب والتراوس (3) وفتل الشارب وعضة الشفة وبحرق الثياب.
ومن قبل ذلك وجب على كل ذي عقل، وبخاصة من كان ملكا يحتاج إلى تدبير مملكته وحاكما يحكم بين قومه بالعدل والانصاف، ألا يتناول منه إلا مقدار الاحتمال والطاقة والعادة المحمودة، لأنه إن جاوز ذلك أخذ منه ما يغم قلبه ويكشف نور عقله ويحجب حسه المنبعث من دماغه، ويمنعه عن الانتشار في جملة بدنه كما يحجب السحاب نور الشمس عن الانتشار في العالم، ويستر نور الحواس، وأظلمت واسترقت الأعضاء، ولم يملك الانسان من عقله ولسانه شيئا، وأثيرت منه الألفاظ المذمومة القبيحة. ولم يكن ذلك راجعا على الشراب بل على الذي تجاوز فيه قدر احتماله، وما أنهته طاعة وزخرف به عادته المحمودة، لان الشراب ليس إنما يفعل ذلك لذاته وجوهريته، وإنما يكثر به ويتجاوز به مقدار احتمال المستعمل. وليس كل ما أضر كثيره، كان قليله مذموما، لأنه لو وجب ذلك لكان القصد المعتدل من الغذاء والماء رديئا مذموما لما ينال الأبدان من الضرر والتلف عند الاكثار منهما، ولكان اللطيف من الهواء غير محمود، لأنه إذا تكاثر على المسام وتكاثف، خنق الحرارة الغريزية وأطفأ نورها.
وقد نجد الفرح أيضا إذا أفرط وبخاصة إذا جاء دفعة، أمات فجأة.
ومن منافع الشراب على سبيل الدواء، مع ما قدمنا فيه من تفتيح سدد الكبد والطحال، وتنقيته مجاريهما ولسائر عروق البدن من الأوساخ والاخلاط الغليظة والأثفال الرديئة، وتحليله للبخارات المظلمة المهيجة للهموم والأحزان، وتشجيعه للقلب وتوليده للسرور والطرب وطيب النفس، وقدحه للعقل، أن شربه نافع من العلة المعروفة بالجوع الكلبي والشهوة الكلبية. وذلك لجهتين: إحداهما:
بإسخانه المعدة وتنقيته للفضل المتعفن المولد للجوع الكلبي. والثانية: أنه يملا العروق ويغنيها عن طلب شئ تمتلئ به.
وللأشربة قوى مختلفة، فأفضلها وأشرفها وألطفها وأسرعها انقلابا، ماء الكرم الساذج البسيط وبخاصة ما قد أتى عليه ثلاثة أحوال وكان متوسطا بين الصفرة والحمرة، ورائحته ذكية، وطعمه