ماء عذب فاتر (١) ليرق ويلطف ويبعد من التجبن. وليس من العجب أن تزول رطوبة اللبن الطبيعية بالطبخ أو بالشئ ثم ترد عوضها ماء عذبا، إذ كان في إزالة رطوبة اللبن إزالة ما فيها من الحدة اليسيرة التي بها يطلق البطن، ونحن أغنياء عن إطلاق البطن في قروح الصدر والرئة، لأنا لا نأمن حدة الفضل المولد لهذه العلة إذا أطلقنا البطن أن ينقلها الفضل بحدته إلى الأمعاء فيحرقها ويهتكها.
وأما اختلاف اللبن بحسب اختلاف أزمان السنة وما يلحقه منها فيكون على ضروب: لأنه ينصرف في كل فصل من الفصول على حسب طبيعة الفصل وجوهريته في اعتداله وانحرافه عن الاعتدال إلى كيفية من الكيفيات ومزاج من الأمزجة. ولذلك صار لبن الربيع أفضل ألبان فصول السنة وأعدلها وأحسنها جوهرا وغذاء، وذلك لجهتين: إحداهما: طبيعة الفصل في ذاته، لأنه أعدل فصول السنة وأشدها تجفيفا بالاعتدال والتوسط والكيفيات الأربع. والأخرى: لطبيعة اللبن في ذاته، من قبل أن كل لبن في وقت وضع الحيوان حمله، يكون أرق وأكثر مائية وأبعد من كمال النضج، ذلك لاجتماع الرطوبات الفضلية في أبدان الحيوان وانحصارها فيها طول مدة الحمل. فإذا جاوز وضع الحيوان حمله أربعين يوما، وتوسط زمان الربيع، فنيت تلك الرطوبات الفضلية من بدن الحيوان، وزالت الرطوبة المذمومة من اللبن وبقيت فيه الرطوبة الجوهرية بكمالها واعتدل وصار ألطف وأحمد جوهرا، وأقل غائلة وأبعد من الاستحالة والفساد، وصار حمله على المعدة أخف، وانهضامه أسرع وبخاصة إذا شرب على نقاء من المعدة من الفضول وخلائها من الغذاء. فإذا تمادى باللبن الزمان وصار إلى الخريف، فنيت أكثر الرطوبة الجوهرية وقلت مائيته وكثرت جبنيته وصار أغلظ وأبعد انحدارا وأثقل على المعدة وأكثر توليدا للرياح وأسرع استحالة إلى الفساد.
وأما لبن الصيف فبين هاتين المرتبتين لتوسط مدة وضع الحيوان حمله في القرب منها والبعد عنها. وأما لبن الشتاء فقل ما يكون للحيوان فيه لبن: فان تهيأ ذلك وأمكن، كان مذموما جدا لأنه قد تناهى في الغلظ لفناء رطوبته الجوهرية كلها (٢).
وأما اختلاف اللبن بحسب مرعى الحيوان الذي يرتعيه فيكون على ضروب: لان لبن ما كان من الحيوان الذي يرتعي الحشيش الرطب الغض الاخضرار، أرق وألطف وأكثر مائية وأسرع انحدارا وأقل رياحا من لبن ما كان من الحيوان الذي يرتعي الحشيش اليابس والحبوب الجافة. ولبن ما كان من الحيوان الذي يرتعي أطراف الأشجار القابضة أكثر موافقة للمعدة وسائر البطن من لبن ما كان من الحيوان <الذي> يرتعي النبات المسهل والحشيش المطلق. ولذلك صار لبن الماعز أكثر موافقة للمعدة من غيره من الألبان، لان أكثر ما يرتعي الماعز أغصان الأشجار القابضة مثل شجر المصطكى والبلوط والخرنوب والقرظ والبطم والزيتون وما شاكل ذلك، إلا أنه ربما ارتعى شجر السقمونيا والخربق