وأفضل الألبان وأعدلها مزاجا وأسرعها انهضاما وأقربها من توليد الدم المحمود، ألبان النساء الفتيات المعتدلات المزاج القويات الحرارة الغريزية بالطبع. ولذلك صار من أنفع الألبان للذع العارض في المعدة وقروح الرئة والمعاء، وشرب الأرنب البحري، ومنه الدواء المعروف بقاتل الذئب، وشرب الذراريح (1). وقد ينفع أيضا من الطرفة التي تعرض للعين إذا قطر فيها. وبعد ألبان النساء لمثل ذلك ألبان الحيوانات القريبة من المزاج المعتدل بالطبع التي ليست ببعيدة من مزاج بدن الانسان. والوقوف على مثل ذلك سهل من رائحة لحم الحيوان، لان كل حيوان مزاجه بعيد من مزاج بدن الانسان مثل الأسد والكلب والثعلب والذئب والأرنب والدب والسنور وما شاكل ذلك، فلحمه زهم جدا كريه الرائحة منافر للطباع. وكل حيوان ليس مزاجه ببعيد من مزاج الانسان مثل الضأن والماعز والبقر والظبي وما شاكل ذلك، فلحمه غير زهم ولا منافر للطباع. ولذلك صار الانسان يستعمل ألبان هذه الحيوانات لأنه قد عرفها وقاربت الطباع إلى قبولها.
وقد نتخذ من بعضها جبنا وزبدا وسمنا مثل الضأن والماعز والبقر. فأما الخيل والأتن والنوق فليس يمكن أن يكون منها جبن ولا سمن، لان ألبانها رقيقة مملوءة رطوبة غزيرة المائية جدا، ولذلك لا تقبل الجمود والانعقاد، وإن كان ديسقوريدس حكى عن لبن الخيل: أنه يتخذ منه جبن يسمى الأقاقي، وذكر أنه زهم جدا تعافه النفوس ولا تقبله الطباع، إنما اشتق له هذا الاسم من اسم منفحة الخيل، لأنها تسمى أقاقي.
والسبب الذي له صار بعض الألبان يتجبن وبعضها لا يتجبن ما قدمنا ذكره في تركيب اللبن من جواهر ثلاثة: جوهر مائي فيه حدة، وجوهر جبني الغالب عليه الأرضية، وجوهر دسم الغالب عليه الهوائية. فأما الجوهر المائي، فلسيلانه وحدته، صار لا يقبل الانعقاد لان من شأنه أن يذيب ويغسل ويحلل. وما كان كذلك لم يمكن انعقاده أصلا. وأما الجوهر الجبني، فلغلظ أرضيته، صار قابلا للانعقاد والذوبان في حال دون حال، لأنه عند ملاقاته البرد والجليد والثلوج يجمد وينعقد. وعند مباشرته الحر والسموم يذوب وينحل. ومن قبل ذلك صار كل لبن مائيته أكثر وجبنيته وسمنيته أقل لا يمكن أن يكون منه جبن لبعد المائية من الانعقاد بالطبع، وبخاصة إذا كان فيه مع ذلك حدة وحرافة.
وكل لبن جبنيته وسمنيته أكثر ورطوبته ومائيته أقل، يمكن أن يتجبن وينعقد لقرب الجبنية والسمنية من الانعقاد بالطبع، إلا أن ما كان منها سمنيته أزيد وجبنيته أنقص، كان الجبن المتخذ منه ألذ طعما وأكثر دسما وأسخف جسما. وذلك لغلبة الجزء الهوائي عليه بالطبع. وما كان منه جبنيته أكثر وسمنيته أقل، كان الجبن المتخذ منه أكثر اكتنازا (2) وأصلب جسما وأقل دسما وأبعد من اللذاذة، وذلك لغلبة الجزء الأرضي عليه بالطبع. ولذلك صار الجبن المتخذ من الضأن ألذ وأدسم من الجبن المتخذ من البقر