ملززا رزين ممتنع المكسر، جوهره ودقيقه أكثر من قشره ونخالته، فهو أكثر غذاء وأفضل لقوة الأعضاء وشدتها لأنه عسير الانهضام والانحدار بعيد الانحلال من الأعضاء. وما كان منه سخيفا رخوا خفيفا قليل الجوهر والدقيق كثير القشر والنخالة، كان أقل غذاء، إلا أنه أفضل لبقاء الصحة على الأصحاء لأنه أسرع انهضاما وانحدارا وأسهل انحلالا من الأعضاء. وما كان متوسطا بين هاتين الحالتين كان أفضلهما وأحمدهما لبقاء الصحة وشدة الأعضاء معه.
وأما امتحان الحبوب والبزور من أفعالها، فعلى هذا المثال وذلك أنك متى أردت أن تمتحن شيئا من الحبوب أو البزور أو غير ذلك من الأشياء اليابسة مثل الإجاص وغيره، فانقع ما كان يحتاج إلى الانقاع بالماء، وأسلق منه ما كان يحتاج إلى السلق، واشو (1) منه ما كان يحتاج إلى الشئ. فما انتفخ منه كثيرا بسرعة وربا وزالت صلابته ويبسه كان أفضل وأحمد مما تفعل به ذلك ويبقى على حالته الأولى من الصلابة واليبس، لان سرعة استحالته تدل على أن الحرارة الغريزية قد أتعبت فعلها في انضاجه وهو على نباته، ونفت عنه رطوبته الفضلية الغليظة اللزجة. ولذلك تخلخل جسمه ولطف ونفيت قوة النار والماء إلى باطنه، ووصلت إلى عمقه وأرخته بسرعة. وما كانت هذه حاله وجب أن يكون استمراؤه أيضا في المعدة والكبد أسرع، وانتقاله إلى الدم وتشبهه بالأعضاء أسهل. وليس إنما فضله فيما ذكرنا فقط، لكن في جودة الغذاء المتولد عنه أيضا، من قبل أن ما كان من الأغذية انهضامه أسرع كان الدم المتولد عنه أحمد وأفضل.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: وليس شئ أبلغ في توليد الدم المحمود مما قد تم انهضامه في المعدة وجاد، لان ما جاد انهضامه في المعدة كان أحرى بأن يجود استمراؤه في الكبد، وإذا جاد استمراؤه في الكبد وجب أن يجود هضمه الثالث الكائن في الأعضاء. أعني بذلك تشبه الغذاء بالمغتذي الذي من أجله كان الطبخان الأولان اللذان (2) في المعدة والكبد جميعا، من قبل أن الشئ إذا كمل نضجه وتهيأ قبل وصوله إلى الأعضاء، كان أسهل في التشبه بالأعضاء ما لم يكمل نضجه بعد ولم يتهيأ لقبول الانفعال، لان المعدة إذا أعدت فأصلحت الكبد، سهل على الكبد إصلاح ما تريد إصلاحه، وهضم ما تحتاج إلى هضمه. وإذا أصلحت الكبد وأعدت للأعضاء، سهل على الأعضاء إحالته ونقلته إلى جوهرها وذاتها.
وعلى هذا الوزن والقياس يجب أن يكون كل ما أعد وأصلح خارجا من البدن بالصنعة والعمل، أعني بالطبخ والخبز والشي وغيره من الصنعة، سهل على الأضراس طحنه وعلى المعدة انضاجه وهضمه. وذلك مقاس من فعل الطبيعة لأنا نجدها كثيرا ما تهيئ الأشياء وتصلحها وتغني عن الحيلة