الباب الخامس في السبب الذي له صار ثمر النبات أسخن وألطف من النبات نفسه قال المؤلف لهذا الكتاب: أجمع الأوائل من الطبيعيين على أن كل ثمر إنما يتولد من ألطف ما يصل إلى النبات من جوهر غذائه. وكان دليلهم على ذلك من أوضح الأدلة وأوثقها برهانا، لأنهم قالوا إنا وجدنا كل نور يقع في الأرض فلا بد له من أن يجذب إليه من جوهرية الأرض ورطوبة الماء ما يشاكل مزاجه مما به غذاؤه وكونه. حتى إذا انبل وانتفخ انشق مما يلي الأرض منه وبرزت منه عروق تقوم له مقام الفم للحيوان، فيجذب بها من الأرض المادة التي منها غذاؤه وبها قوامه. حتى إذا قوي ونما، جذبت حرارة الشمس من ألطف ما يصل إلى النبات من الغذاء شيئا إلى فوق ورفعت له رأسا بارزا من الأرض. فإذا قويت حرارة الشمس وتمكنت منه جيدا قوى على نشف الرطوبة المغذية له وجذبها إليه وفيها شئ من جوهر الأرض ولطافة الهواء. فإذا كثرت الرطوبة وغزرت، انطبخت بالحرارة الغريزية من باطنه وحرارة الهواء من ظاهره، وارتفع له عود وتفرعت أغصانه وأورقت. وكلما ازداد فعل الحرارة فيه تأثيرا قويت الفروع وصلبت واتسعت مجاريها وتنفست ونورت ثم أزهرت وأثمرت كما ينتج الطفل إذا صار غلاما في وقت احتلامه عند قوة أعضائه واتساع منافسها واستحكام الزرع فيها بتمام قوة فعل الطبيعة بقدرة بارئها عز وجل. فإذا كملت الثمرة ونمت بلطيف ما يصل إليها من الغذاء، انطبخ غذاؤها وانتقل من الأرضية والعفوصة إلى طعوم شتى على حسب طبيعة النبات الذي الثمرة منه كما بينا آنفا حيث قلنا:
إن ما كان من النبات حرارته حائدة عن الاعتدال قليلا كأنها منحرفة إلى البرودة يسيرا، وكانت رطوبته لطيفة مائية، كان انتقال ثمره من العفوصة إلى التفاهة وطعم الماء. فإن كانت الحرارة بهذا الوزن والقياس، وكانت الرطوبة لزجة متوسطة بين اللطافة والغلظ، كان انتقال الثمرة إلى العذوبة قليلا.
فإن ازدادت الحرارة قليلا وقويت وصارت في غاية التوسط والاعتدال كأنها في الدرجة الثانية من الحرارة، وكانت الرطوبة أيضا متوسطة بين الغلظ واللطافة، كان انتقال الثمرة إلى الحلاوة.