عند خروجه من الماء، لأنه لا يلبث إلا قليلا حتى يفسد ويعفن وينتن، لان كثرة لزوجته ولعابيته تسد مسام النفس فيه بسرعة فتختنق حرارته الغريزية في باطنه في أسرع مدة ويطفو على المكان. وقد أخبرت، في المقالة الأولى من كتابي هذا، بشئ من مثل هذا النوع من السمك شاهدته عيانا، وذلك أني شاهدت بالغرب بحيرة مستعملها تكون مساحتها مائتي ذراع في مائتين وخمسين، فكان الماء يخلي فيها في كل عشرة أيام أو عشرين يوما أو أكثر من ذلك، ولم يكن يخرج منها شئ إلى موضع، لان مشربها الذي أعد لها للمفرغ كان مسدودا، ولكن كانوا يسقون منها بالدلاء. فأقامت بذلك خمس سنين أو أكثر حتى كثرت الحمأة فيها ونبت فيها الحشيش، وتولدت فيها ضفادع كثيرة كبار عظيمة. فلما أرادوا أن ينقوها، فتحوا ذلك المشرب، فخرج ذلك الماء وبقي الحشيش والحمأة والضفادع، ووجدوا فيها سمكا كبيرا سمينا إذا مسه الانسان زلق من يده حتى لا يقدر الانسان أن يمسكه. وإذا أخرج من الماء الذي فيه الحمأة، مات من ساعته. وشاهدت من طبخ منه شيئا فلم يقدر على أكله، للعابيته ولزوجته وسهوكته.
ودون هذا السمك في الفساد وبعد الانهضام ورداءة الغذاء سمك البحيرات المنقطعة عن البحر فقط، لان هذه البحيرات، وإن كان لا يخرج منها شئ ء إلى البحر فيغسل ماؤها بما يخرج منها، فإن ما ينصب إليها من الأنهار دائما يلطف ماءها قليلا ويرقه ويطريه ويغير بعض زهومته وسهوكته. وإن كان ذلك ليس مما يزيل عن السمك فساد غذائه وبعد انهضامه جملة، لكن ينقص قليلا.
وأما سمك البحيرات القريبة من الأنهار والبحر جميعا، فهو أقل لزوجة وأبعد من الغلظ وأرق من سمك الأنهار اللطاف القريبة من المدن، لان ماءه الذي يأوي إليه يرق ويلطف بما ينصب إليه من الأنهار، وينغسل بما يخرج منه إلى البحر إذا كان بين هذين المائين ماء الأنهار اللطاف فرق بين لقوة حركة ماء الأنهار وشدة مده. ولذلك صار سمك الأنهار اللطاف أقل لزوجة وسهوكة وأسرع انهضاما من سمك البحيرات القريبة من الأنهار والبحر جميعا.
وللفاضل أبقراط في السمك قول قال فيه: إن ما كان من سمك البحر يأوي المواضع اللينة الكثيرة الطهر فهو أسمن وأسرع انحدارا، إلا أنه أعسر انهضاما. وما يأوي من سمك الأنهار القليلة الحركة القريبة من المدن أو البحيرات المتصلة بالبحر والأنهار، كان أعسر انهضاما من الأول وأسرع انحدارا وأكثر شحما لان أقل السمك رطوبة وأبعده من اللزوجة ما كان بحريا وبعده سمك الأنهار العظام الشديدة المد، البعيدة من المدن. وأكثر السمك رطوبة ولزوجة وسهوكة سمك البحيرات المنقطعة عن البحر فقط، وبعده سمك البحيرات المتصلة بالبحر والأنهار، وسمك الأنهار اللطاف الضعيفة المد القريبة من المدن، وإن كان هذا السمك أفضل من سمك البحيرات في الجملة. وإذ ذلك كذلك، فمن البين أنه بحسب نقصان سمك الأنهار عن سمك البحر في اللذاذة وحسن الاستمراء وجودة الجوهر، كذلك نقصان سمك البحر عن سمك الأنهار في مثل ذلك أيضا. وبعكس ذلك يقال: أنه بحسب