القول في اللبن قد كنا بينا في المقالة الأولى من كتابنا هذا أن اللبن في طبيعته ومزاجه منحرف عن المزاج المعتدل إلى الحرارة والرطوبة قليلا، كأن حرارته ورطوبته في الدرجة الأولى. ولذلك صار أقل رطوبة من السمك، وأبعد من تولد البلغم لأنه قريب من طبيعة الدم، إذ ليس هو شئ غير دم قد انطبخ في الضرع طبخا ثانيا واستفاد من جوهره الضرع بياضا. وتدل على ذلك عذوبته وحلاوته ولذاذته. فإن عارضنا معترض وقال: إذا كان اللبن عندك إنما صار حارا رطبا لأنه دم قد انطبخ ثانيا، فلم لا أوجب مثل ذلك أيضا للأعصاب والعظام وسائر، الأعضاء المنسوبة إلى البرودة، وقلت أنها حارة رطبة، لان مادتها (1) وغذاءها المقوم لذاتها ليس هو شئ غير دم قد انطبخ فيها طبخا ويشكل لها.
قلنا: إن المعارضة غير لازمة من قبل أن الدم وإن نسب في طبيعته ومزاجه إلى الحرارة والرطوبة، فإنه عين من الأعيان، وسائر الكيفيات كلها موجودة فيه، وإن نسب إلى الأغلب عليه منها مثل الانسان الشاب المنسوب إلى المرة الصفراء، وإن كانت سائر الأخلاطات موجودة فيه. وكذلك الصبي المنسوب إلى الدم، والشيخ إلى البلغم. وأعضاء البدن فأعيان قائمة بأنفسها بطبائع مختلفة ومزاجات متغيرة يقبل كل واحد منها من الدم ما يشاكل طبيعته وذاته مثل الطحال القابل لعكر الدم وغلظه، وأقربه من المرة الصفراء واللبن فليس ذلك لأنه ليس هو عين قائمة بنفسها خارجة عن الدم يقبل منه ما شاكل طبيعتها ومزاجها، بل هو الدم نفسه انطبخ في الضرع طبخا ثانيا واستفاد من جوهرية الضرع بياضا.
فحكمه حكم الدم لان الطباع أعدته لتغذية الحيوان كما أعدت الدم لمثل ذلك، إلا أنه يختلف في جوهريته وغذائه ولطافته وسرعة انهضامه وإبطائه لوجوه أربعة: أحدها: اختلاف مزاج الحيوان الذي هو منه. والثاني: لما يلحقه من الاختلاف في فصول السنة لتغير الهواء وانقلابه في كل زمان منها.
والثالث: كيفية المرعى الذي يرتعيه. والرابع: من كمية مدة اللبن في قصرها وطولها وقرب خروج اللبن من الضرع وبعده منه.