فأما اختلاف اللبن لاختلاف كيفيته في ذاته فيكون على ثلاثة ضروب: لان منه اللطيف جدا، ومنه الغليظ جدا، ومنه المتوسط بين هاتين المرتبتين، وإن كان قد يتوسط بين كل واحدة من الحاشيتين وبين الواسطة وسائط أخر. والسبب في غلظه ولطافته أن كل لبن فمركب من جواهر ثلاثة: جوهر رقيق مائي فيه يسير من لطافة النارية وحدتها، وجوهر غليظ جبني الغالب عليه الأرضية، وجوهر دسم لطيف الغالب عليه الهوائية (١). فلما فيه من الحرارة اللطيفة والحدة اليسيرة، صار له قوة على تلطيف الأثفال وترقيق الأخلاط وتنقية الأوساخ. ولذلك صار معينا على إطلاق البطن وتفتيح سدد الكبد. وأما الجوهر الجبني، فلأرضيته وغلظه صار مائلا إلى البرودة واليبوسة قليلا، إلا أنه طري فهو إلى الرطوبة (٢) أميل للمائية التي فيه بعد باقية من مائية اللبن. فإذا جف وزالت عنه رطوبة اللبن، رجع إلى طبيعته وذاته وصار جافا يابسا. ولذلك صار جوهره غليظا وانحداره رطبا وحبسه للبطن قويا. ولهذه الجهة صار مولدا للأخلاط الغليظة اللزجة الموجبة لتولد سدد الكبد والطحال وحجارة الكلى. وأما الجوهر اليسير فللطافة هوائيته صار حارا (٣) رطبا ملينا باعتدال، مشاكلا لمزاج البدن من الانسان في حرارته ورطوبته جميعا <و> ولمزاج الرئة في حرارته فقط لا في يبسه، لان <مزاج> الرئة في طبيعته يابس مجفف، والسمن ملين مرخ.
وإذا كان كذلك، كان من البين أن ألطف الألبان وأرقها قواما وأسرعها انحدارا، وأطلقها للبطن ما كثرت مائيته وقلت جبنيته مثل لبن النوق. وأغلظ الألبان وأعسرها انحدارا وأبعدها من إطلاق البطن ما كثرت جبنيته وقلت مائيته مثل لبن الجواميس، وبعده لبن البقر. وأعدل الألبان وأحسنها استمراء مثل لبن النساء، وبعده لبن الماعز. وقد يتوسط بين لبن الماعز وبين <لبن> البقر مرتبة أخرى مثل لبن الضأن، لأنه أغلظ من لبن الماعز وأكثر جبنية وأرق من لبن البقر وأكثر مائية. ويستدل على كثرة جبنية لبن الضأن وزيادتها جبنية على لبن البقر من زهومة لبن الضأن وزفورته وذكاء رائحة لبن البقر وقلة زفورته.
فإن قال قائل: وما السبب الذي صار لبن الضأن ألطف من لبن البقر وأرق، وهو أكثر جبنية.
ولبن البقر أكثر سمنية. والسمنية ألطف من الجبنية كثيرا، قلنا له: من قبل أن مائية اللبن من الضأن أكثر وحرارته أقوى لغلبة الحرارة والرطوبة على مزاج حيوانه بالطبع، ومائية لبن البقر وحرارته أضعف لغلبة البرد واليبوسة على حيوانه بالطبع. ولذلك قد يتوسط بين مرتبة لبن الماعز وبين مرتبة <لبن> اللقاح مرتبة أخرى مثل مرتبة لبن الخيل والأتن، لأنها أكثر مائية من لبن اللقاح، وأكثر في ذلك من لبن الماعز، إلا أن <لبن> الخيل أقرب من لبن اللقاح، لأنه أكثر مائية، ولبن الأتن أقرب من لبن الماعز لأنه أقل مائية. ولذلك صار لبن الخيل لا يتجبن في المعدة أصلا لقربه من لبن اللقاح. وأما لبن الأتن فربما