تعالى قال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم) ولم يقل من آدم، وقال، (من ظهورهم)، ولم يقل من ظهره، وقال: (ذريتهم)، ولم يقل ذريته، ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنهم نشأوا على دينهم، وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون، فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه، وأيضا فإن هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم، لا يخلو إما أن جعلهم الله عقلاء، أو لم يجعلهم كذلك، فإن لم يجعلهم عقلاء، فلا يصح أن يعرفوا التوحيد، وأن يفهموا خطاب الله تعالى، وإن جعلهم عقلاء وأخذ عليهم الميثاق، فيجب أن يتذكروا ذلك، ولا ينسوه، لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه، إلا أن يكون ذاكرا له، فيجب أن نذكر نحن الميثاق، ولأنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير، والجم الغفير من العقلاء، شيئا كانوا عرفوه وميزوه، حتى لا يذكره واحد منهم، وإن طال العهد، ألا ترى أن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال الدنيا، حتى يقول أهل الجنة لأهل النار: (أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) ولو جاز أن ينسوا ذلك مع هذه الكثرة، لجاز أن يكون الله تعالى، قد كلف الخلق فيما مضى، ثم أعادهم إما ليثيبهم وإما ليعاقبهم، ونسوا ذلك، وذلك يؤدي إلى التجاهل، وإلى صحة مذهب التناسخية.
وحكي عن علي بن عيسى، عن أبي بكر بن الأخشيد أنه جوز أن يكون خبر الذر صحيحا، غير أنه قال: ليس تأويل الآية على ذلك، ويكون فائدته أنه إنما فعل ذلك ليجروا على الأعراق الكريمة، في شكر النعمة، والإقرار لله تعالى بالربوبية، كما روي أنهم ولدوا على الفطرة. وحكي أبو الهذيل في كتاب الحجة أن الحسن البصري وأصحابه، كانوا يذهبون إلى أن نعيم الأطفال في الجنة ثواب عن الإيمان في الذر.
وثانيها: إن المراد بالآية أن الله سبحانه، أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم، ثم رقاهم درجة بعد درجة، وعلقة، ثم مضغه، ثم أنشأ كلا منهم بشرا سويا، ثم حيا مكلفا، وأراهم آثار صنعه، ومكنهم من معرفة دلائله، حتى كأنه أشهدهم. وقال لهم: ألست بربكم؟ فقالوا: بلي. هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم: دلهم بخلقه على توحيده، وإنما أشهدهم على أنفسهم بذلك، لما جعل في عقولهم من الأدلة على وحدانيته، وركب فيهم من عجائب