ليست بدار تكليف، وكل الناس ملجؤون فيها إلى ترك القبيح، لمشاهدة الحقائق، وزوال عوارض الشبه، والشكوك، ولمعرفتهم بالله سبحانه ضرورة؟ والجواب: إن معناه ما كنا مشركين في الدنيا عند أنفسنا، وفي اعتقادنا، وتقديرنا، وذلك أن المشركين في الدنيا يعتقدون كونهم مصيبين، فيحلفون على هذا في الآخرة. فعلى هذا يكون قولهم وحلفهم يقعان على وجه الصدق.
وقيل أيضا: إنهم إنما يحلفون على ذلك لزوال عقولهم بما يلحقهم من الدهشة من أهوال القيامة، ثم ترجع عقولهم، فيقرون ويعترفون، ويجوز أن ينسوا إشراكهم في الدنيا بما يلحقهم من الدهشة عند مشاهدة تلك الأهوال.
(أنظر) المعنى يقول الله تعالى عند حلف هؤلاء: أنظر يا محمد (كيف كذبوا على أنفسهم) وهذا وإن كان لفظه لفظ الاستفهام، فالمراد به التنبيه على التعجيب منهم، ومعناه أنظر إلى إخباري عن افترائهم، كيف هو، فإنه لا يمكن النظر إلى ما يوجد في الآخرة، وإنما كذبهم الله سبحانه في قولهم، وإن كانوا صادقين عند أنفسهم، لأن الكذب هو الإخبار بالشئ، لا على ما هو به علم المخبر بذلك، أو لم يعلم، فلما كان قولهم: (ما كنا مشركين) كذبا في الحقيقة، جاز أن يقال كذبوا على أنفسهم.
وقيل: معناه أنظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا، لا إنهم كذبوا في الآخرة، لأنهم كانوا مشركين على الحقيقة، وإن اعتقدوا أنهم على الحق، عن الجبائي (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي: ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها، ويفترون الكذب بقولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله غدا) فذهبت عنهم في الآخرة، فلم يجدوها، ولم ينتفعوا بها عن الحسن.
وقيل: إنه عام في كل ما يعبد من دون الله تعالى، أنها تضل عن عابديها يوم القيامة، ولا تغني عنهم شيئا، واختلف أهل العدل في أن أهل الآخرة هل يجوز أن يقع منهم الكذب؟ فالأصح أنه لا يجوز على ما قلناه، وقال بعضهم: يجوز ذلك لما يلحقهم من الدهش والحيرة في القيامة، فإذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فحينئذ لا يجوز أن يقع منهم القبيح والكذب، ويكون جميعهم ملجئين إلى ترك القبيح، وبه قال أبو بكر بن الأخشيد وأصحابه. وقال بعضهم: إنه يجوز وقوعه