هذه المقالة على الله تعالى.
وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله سبحانه لا يشاء المعاصي، والكفر، وتكذيب ظاهر لمن أضاف ذلك إلى الله سبحانه، هذا مع قيام الأدلة العقلية التي لا يدخلها التأويل، على أنه سبحانه يتعالى عن إرادة القبيح، وجميع صفات النقص، علوا كبيرا (قل) يا محمد إذا عجز هؤلاء عن إقامة حجة على ما قالوه (فلله الحجة البالغة) والحجة البينة الصحيحة المصححة للأحكام، وهي التي تقصد إلى الحكم بشهادته، مأخوذة من حج: إذا قصد، والبالغة: هي التي تبلغ قطع عذر المحجوج، بأن تزيل كل لبس وشبهة عمن نظر فيها، واستدل بها، وإنما كانت حجة الله صحيحة بالغة، لأنه لا يحتج إلا بالحق، وبما يؤدي إلى العلم.
(فلو شاء لهداكم أجمعين) أي: لو شاء لألجأكم إلى الإيمان، وهداكم جميعا إليه، بفعل الإلجاء، إلا أنه لم يفعل ذلك، وإن كان فعله حسنا، لأن الإلجاء ينافي التكليف، وهذه المشيئة بخلاف المشيئة المذكورة في الآية الأولى، لأن الله تعالى أثبت هذه، ونفى تلك، وذلك لا يستقيم إلا على الوجه الذي ذكرناه. فالأولى مشيئة الاختيار، والثانية مشيئة الإلجاء. وقيل: إن المراد أنه لو شاء لهداكم إلى نيل الثواب، ودخول الجنة، ابتداء من غير تكليف، ولكنه سبحانه لم يفعل ذلك، بل كلفكم وعرضكم للثواب الذي لا يحسن الابتداء بمثله، ولو كان الأمر ما قاله أهل الجبر، من أن الله سبحانه شاء منهم الكفر، لكانت الحجة للكفار على الله تعالى من حيث فعلوا ما شاء الله تعالى، ولكانوا بذلك مطيعين له، لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد، ولا يكون الحجة لله تعالى عليهم على قولهم من حيث إنه خلق فيهم الكفر، وأراد منهم الكفر، فأي حجة له عليهم، مع ذلك. ثم بين سبحانه أن الطريق الموصل إلى صحة مذاهبهم، مفسد غير ثابت من جهة حجة عقلية، ولا سمعية، وما هذه صفته، فهو فاسد لا محالة. فقال: (قل) يا محمد لهم (هلم شهداءكم) أي: أحضروا، وهاتوا شهداءكم (الذين يشهدون) بصحة ما تدعونه من (أن الله حرم هذا) أي: هذا الذي ذكر مما حرمه المشركون من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحرث، والأنعام، وغيرها (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) معناه: فإن لم يجدوا شاهدا يشهد لهم على تحريمها غيرهم، فشهدوا بأنفسهم، فلا تشهد أنت معهم، وإنما نهاه عن الشهادة معهم، لأن شهادتهم تكون شهادة بالباطل.