وقد ينقسم البقل قسمة ثالثة (1) على قسمين: وذلك أن منه ما جل جوهره ومحمود غذائه في ما كان بارزا من الأرض، أعني الورق والقضبان مثل الخس والهندباء والكرنب وما شاكل ذلك مما كان أصله الغائر في الأرض ليس بقوي. ومنه ما جل جوهره ومحمود غذائه في أصله الغائر في الأرض مثل الجزر والفجل والقلقاس والشلجم وما شاكل ذلك.
والسبب في ذلك أن الطبيعة ربما كان أكثر قصدها في بعض النبات تغذية قضبانه وقلوبه، فتصرف أكثر عنايتها إليها ويقوى فعلها فيها فتستلب القضبان والقلوب بطبعها جوهر الغذاء ومحموده، ولا يبقى للأصل من الغذاء إلا أيسر ذلك مما كأنه عندها نفاية الغذاء مما لم يكمل نضجه وهضمه. وما كانت هذه حاله من النبات كان قضبانه أطول وقلوبه أعظم وثمرته أغزر. وربما كان قصد الطبيعة تغذية الأصل وتربيته، فتصرف أكثر عنايتها إليه ويقوى فعلها فيه فيحتوي الأصل بطبعه على جوهر الغذاء ومحموده، وتقذف بما فضل من غذائه مما كأنه عندها نفاية الغذاء إلى الورق والقلوب، كالذي نشاهده من فعل الطبيعة في الحيوان لأنا نجدها دائما تقذف بفضل غذاء الأعضاء إلى ظاهر البدن وتولد منه أشياء ليست باضطرارية مثل العرق والصوف والشعر والريش وفلوس السمك (2) وغير ذلك. ولذلك، صار غذاء ما كان من السمك له فلوس أفضل وأحمد مما كان لا فلوس له لان نفاية غذائه يتصرف إلى فلوسه، ويبقى غذاؤه خالصا. ومن قبل ذلك صار أصل هذا النوع من النبات دائم العظم في كل زمان حتى في الشتاء فضلا على غيره من الأزمنة.
وأما قضبانه وورقه فإنها لا تكاد أن تنبت ولا تنمو، إلا في زمان الربيع في الوقت الذي تثور فيه جميع الأشجار. ولهذا ما صار كل نبات يكون في أصله غذاء للناس لا يكاد ان يكون في بزره غذاء.
وكل نبات يكون في بزره غذاء لا يكاد أن يتغذى بأصله. ولذلك قال جالينوس أنه لا يؤكل أصل كل نبات كما لا يؤكل نبات كل أصل. ولرجل من الأوائل يقال له ميثنساوس من أهل أثينيا في هذا فصل قال فيه: إن كل نبات يؤكل منه أصله فبزره لا يكاد أن يؤكل، وكل نبات يؤكل منه بزره فأصله لا يكاد أن يؤكل. ومن أجل ذلك وجب أن يمتحن كل واحد من أجزاء النبات على الانفراد بالذوق والشم ليقف على مزاجه ويعرف المحمود منه للاكل من غير المحمود مثال ذلك: أنا متى وجدنا شيئا حريفا علمنا، لما بينا آنفا من فعل الحرارة حيث قلنا: أن من شأنها أن ترق دم من كان بلغمانيا وتصيره مائيا. وتحرق دم من كان صفراويا وتصيره سوداويا حريفا، وتحجر فضول الكلى والمثانة وتولد منها حجارة وحصى.
ومتى وجدنا شيئا تفها لا طعم له، علمنا أيضا أنه مذموم من جهة أخرى لأنه يولد خلطا بلغمانيا ويرخي المعدة ويغثي. ومتى وجدنا شيئا لزجا، وقفنا على غلظه وبعد انهضامه. فإذ ذلك كذلك، فقد بان أن كل نبات حريف فمذموم الغذاء ردئ. وأردأ ما فيه أصله لان الأصل من كل نبات أحر وأيبس وأعسر