وترخي الشحم وتفيده لذاذة وسرعة انهضام. ولذلك صار الكرش والأمعاء وما يليها أغلظ جسما وأردأ غذاء لاحتقان الفضول في باطنها بالطبع، لأنها مغيض الأثفال ومستقرها.
وما كان من الأعضاء متوسطا بين القلب والدماغ مجاورا لينبوع الحياة ومعدن الحرارة الغريزية، كان ألذ طعما وأسرع انهضاما وأحمد غذاء، وذلك لجهتين: إحداهما: أنها تغتذي بدم قد انهضم من الكبد بدءا وفى القلب ثانية على ما بينا وأوضحنا في المقالة الأولى من كتابنا هذا. والجهة الثانية: أن الحرارة الغريزية لمجاورتها لها تلطف فضولها دائما وتهضمها وتنقيها. وما كان من الأعضاء قريبا من العجز بعيدا من ينبوع الحرارة الغريزية، كان أغلظ طبعا وأبعد انهضاما وأقل لذاذة وأذم غذاء، وذلك لجهتين: إحداهما: بعده من معدن الحرارة الغريزية وينبوع الحياة. والثانية: أنها تغذى بدم لم يصل إلى القلب ولم ينهضم فيه ثانية.
وما كان من الأعضاء متوسطا بين هاتين المرتبتين، كان أجدى من كل واحدة من الحاشيتين بقسمة قياسية، وصار بذلك ألطف مما قرب من عجز البدن وأسرع انهضاما وأحمد غذاء وأغلظ مما توسط بين القلب والرأس وأبعد انهضاما وأذم غذاء، من قبل أنه وإن كان بالقرب من ينبوع الحرارة الغريزية ومعدنها، فإن الدم الذي يغتذي به لم يصل إلى القلب ولم تهضمه الحرارة الغريزية ثانية. وما كان من الأعضاء في الجانب الأيمن، كان أفضل مما كان في الجانب الأيسر، من قبل أن ما كان في الجانب الأيمن فهو مجاور للكبد، وما جاور الكبد كان أكثر اتساعا في الدم المحمود، وذلك أن الكبد ينبوع القوى الطبيعية ومغيضها ومعدنها وفعل القوى فيما قرب من ينبوعها ومعدنها أقوى من فعلها فيما بعد من ذلك ونأى.
وأما اختلاف غذاء (1) الحيوان من قبل حركتها وسكونها فيكون على ضروب: من قبل أن ما كان من الأعضاء أكثر حركة كانت رطوبته أقل وفضوله أيسر ولحمه أرخى وانهضامه أسرع، لان الحركة ترض الأعضاء وتحميها وتلطف الفضول وتفني أكثرها، وأكثر الأعضاء حركة العضل. ولذلك صارت أقل فضولا وأسرع انهضاما وألذ طعما وأحمد غذاء. وما كان من الأعضاء أقل حركة، كان بعكس ذلك وضده، لان السكون يحصر الرطوبات في باطن الأعضاء ويجمع الفضول فيها ويمنع من تحليلها.
ويستدل على ذلك من الشاهد، لأنا نجد الخيل وغيرها من الحيوان إذا تحركت وركضت، حميت أبدانها وذابت فضولها ورطوبتها وتحللت وخرجت بالبخار والعرق. وإذا سكنت وامتنعت من الحركة، انحصرت الرطوبات في باطنها ولم تظهر.
وإذ أتينا على ما أردنا إيضاحه من اختلاف أعضاء الحيوان على الجملة بالقول المطلق، فنحن أحفى بأن نجود الكلام في كل واحد منها على الانفراد، ونأتي بخاصته التي هي له دون غيره لان ذلك أظهر للحس وأقرب من أذهان المتعلمين. ولا حول ولا قوة إلا بالله.