العين إذا اكتحل به، وحلل أورامها، ونفع بجبنيته من قروح الصدر والرئة والحلقوم وقروح الكلى والمثانة والمعاء، وسكن لذع الأخلاط الحريفة المتولدة في المعاء، لأنه يلتف بالاحشاء ويحول بين الاخلاط وبين التمكن منها. ولذلك صار متى استعمل مع بعض الأدوية القابضة، كان دواء فاضلا نافعا من الزحير (1) واختلاف الأغراس وبخاصة متى شوي بالحجارة المدورة الملساء المحماة حتى تذهب مائيته وحدته. وأفضل من الحجارة لمثل ذلك، قطع الحديد الفولاذ المدورة التي لها مقابض تمسك بها. وإن ألقي على اللبن مثله ماء عذب (2) وألقيت فيه القطع الحديد المحماة دائما حتى يذهب ما ألقي عليه من الماء، كان أفضل لأنه ليس يكره من ماء اللبن مائيته فقط، لكنه قد يكره منه أيضا حدته التي بها يطلق البطن. وإن ردد الماء عليه مرارا وشوي في كل مرة حتى يذهب ما ألقي عليه من الماء، كان أكثر لزوال حدته وحرافته وصار أفضل وأحمد، لما يقصد به من علاج الاسهال والزحير، وتقوية المعاء وتسكين لذع الأخلاط الحادة.
والجهة الثانية التي لها يحمد اللبن، أنه لما كان مادة وغذاء للحيوان المشاء، وجب أن يكون أعدل الأغذية وأقربها من الانقلاب إلى الدم وأسرعها تشبها باللحم وسائر الأعضاء إذا استعمل على ما ينبغي أعني على نقاء من المعدة واعتدال من المزاج، وفى وقته الطبيعي. أريد بالوقت الطبيعي، الزمان الذي هو في غاية من الاعتدال القريب في مزاجه من طبيعة اللبن، مثل زمان الربيع الطبيعي إذ كان أعدل الأزمنة وأكثرها توسطا للكيفيات الأربع.
وقد بين ذلك جالينوس وفرق بين مزاج الربيع الطبيعي ومزاج الربيع غير الطبيعي في كتابه المعروف بكتاب (المزاج). فإذا استعمل اللبن على غير نقاء من المعدة، أو على غير اعتدال من مزاج بدن المستعمل له، أو في زمان غير معتدل، تغير بسرعة وانتقل إلى الدخانية وجنس المرار فيمن كان مزاجه محرورا، وإما إلى الحموضة وجنس العفونة فيمن كان مزاجه باردا. وكثيرا ما يعرض ذلك إما دائما وإما الحين بعد الحين، لأنه إن كان، إنما يعرض من قبل أن جوهر المعدة أو مزاج البدن بأسره قد تغير وحاد عن الاعتدال، لزم اللبن التغيير والاستحالة دائما. وإن كان إنما يعرض ذلك لما يوافيه في جرم (3) المعدة من أغذية قد تقدمته، أو فضل مري أو بلغماني كان، إنما يقع تغييره واستحالته عند موافاته تجويف جرم المعدة ممتلئا إما من غذاء متقدم، وإما من فضول رديئة.
ومن قبل ذلك قال جالينوس: إن اللبن، وإن كان في جوهره ومزاجه محمودا فاضلا للطافته وسرعة استحالته وانقياده للانفعال، فإن كثيرا ما يعرض له من اختلاف حالات المعدة أن يتجبن فيها، وينتقل إلى الدخانية وجنس المرار أحيانا، أو يلزمه ذلك دائما، أو يحمض وينتقل إلى جنس البلغم العفن أحيانا، أو يلزمه ذلك دائما. وذلك يكون على اختلاف الأسباب الفاعلة لهذين العرضين من قبل