يا ظالمي أنى تروم ظلامتي، والله من كل الحوادث جاري فلما رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء، وعلم أنه لا طاقة لهم بهم، نكص على عقبيه عن ابن عباس، والسدي، والكلبي، وغيرهم. وقيل: إنه لما التقوا كان إبليس في صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام، فنكص عل عقبيه، فقال له الحارث: يا سراقة أين أتخذلنا على هذه الحالة؟ فقال له: إني أرى ما لا ترون.
فقال: والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب! فدفع في صدر الحرث، وانطلق وانهزم الناس. فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم! فقالوا: إنك أتيتنا يوم كذا؟ فحلف لهم.
فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان عن الكلبي، وروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام.
وقيل: إن إبليس لا يجوز أن يقدر على خلع صورته، ولبس صورة سراقة، ولكن الله تعالى جعل إبليس في صورة سراقة، علما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما فعل ذلك لأنه علم أنه لو لم يدع المشركين انسان إلى قتال المسلمين، فإنهم لا يخرجون عن ديارهم حتى يقاتلهم المسلمون، لخوفهم من بني كنانة، فصوره بصورة سراقة، حتى تم المراد في إعزاز الدين، عن الجبائي، وجماعة.
وقيل: إن إبليس لم يتصور في صورة الانسان، وإنما قال ذلك لهم على وجه الوسوسة عن الحسن، واختاره البلخي. والأول هو المشهور في التفاسير.
ورأيت في كلام الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن النعمان (رض): إنه يجوز أن يقدر الله تعالى الجن ومن جرى مجراهم على أن يجتمعوا ويعتمدوا ببعض جواهرهم على بعض، حتى يتمكن الناس من رؤيتهم، ويتشبهوا بغيرهم من أنواع الحيوان لأن أجسامهم من الرقة على ما يمكن ذلك فيها، وقد وجدنا الانسان يجمع الهوا ويفرقه ويغير صور الأجسام الرخوة، ضروبا من التغيير، وأعيانها لم تزد ولم تنقص، وقد استفاض الخبر بأن إبليس تراءى لأهل دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد، وحضر يوم بدر في صورة سراقة وأن جبرائيل عليه السلام ظهر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورة دحية الكلبي، قال: غير محال أيضا أن يغير الله تعالى صورهم، ويكشفها في بعض الأحوال، فيراهم الناس لضرب من الامتحان.