وكان الناس في ذلك الزمان، إذا نزل بهم بلاء أو جهد، التجأوا إلى بيت الله الحرام بمكة، مسلمهم وكافرهم، وأهل مكة يومئذ العماليق من ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكانت أمه من عاد، فبعث عاد وفدا إلى مكة، ليستسقوا لهم، فنزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة، خارجا من الحرم، فأكرمهم، وأنزلهم، وأقاموا عنده شهرا، يشربون الخمر.
فلما رأى معاوية طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم، شق ذلك عليه، وقال: هلك أخوالي، وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه. وشكا ذلك إلى قينتيه اللتين كانتا تغنيانهم، وهما الجرادتان، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله، فقال معاوية بن بكر:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم * لعل الله يصبحنا غماما (1) فيسقي أرض عاد، إن عادا * قد أمسوا ما يبينون الكلاما وإن الوحش تأتيهم جهارا، * ولا تخشى لعادي سهاما وأنتم ههنا فيما اشتهيتم * نهاركم، وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم *، ولا لقوا التحية والسلاما فلما غنتهم الجرادتان بهذا، قال بعضهم لبعض: إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء، فادخلوا هذا الحرم، واستسقوا لهم. فقال رجل منهم: قد آمن هود سرا، والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم سقيتم! فزجروه، وخرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد، وكان قيل بن عنزر رأس وفد عاد، فقال: يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا، فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله سبحانه سحابا ثلاثا:
بيضاء، وحمراء، وسوداء. ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل! اختر لنفسك ولقومك. فاختار السحابة السوداء التي فيها العذاب، فساق الله سبحانه تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد. فلما رأوها استبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا يقول الله عز وجل (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) فسخرها الله تعالى