النخال أسخن بالطبع وأكثر تخليلا وأقوى جلاء، والدقيق أقل إسخانا (1) وأكثر غذاء، ذلك لجفاف النخال واستحصافه ولزوجة الدقيق وعلوكته. ولهذا صار الشعير إذا طبخ بقشره كان أكثر جلاء وإطلاقا للبطن وأقل تبريدا وتغذية. وإذا طبخ بغير قشره، كان أكثر تبريدا وتغذية وأقل جلاء وإطلاقا للبطن ولجالينوس في الشعير والباقلى (2) قول قال فيهما على سبيل الدواء: إن الشعير والباقلى لما كانا قليلي الانحراف عن المزاج المعتدل، صار أكثر الناس يستعملهما (3) في أشياء كثيرة على سبيل الدواء، كاستعمال الشمع والدهن، من قبل أن الأغذية التي سبيلها سبيل الشعير والباقلي تخلط كثيرا مع الأغذية كما يخلط الشمع والدهن في المراهم والضمادات.
وقد ينقسم الشعير في جوهره وغذائه على ثلاثة ضروب، من قبل أن أنواعه ثلاثة: لان منه نوع مكتنز رزين أسمر حسن السطح، إذا قشرته وجدت له كثافة وتلززا (4) دالا على كثرة لبابه وجوهره وقلة قشره ونخالته وبعد انهضامه. ويدل على ذلك بعد انتفاخه في الماء إذا طبخ. ومنه نوع آخر أبيض ممتلئ خفيف أملس السطح ممتد القشر، إذا قشرته رأيت فيه تخلخلا وسخافة تدل على قلة لبابه ولزوجته وكثرة نخالته وسرعة انهضامه. ويدل على ذلك أيضا سرعة انتفاخه في الماء إذا طبخ فيه. ومنه نوع ثالث دقيق ضامر، له سطح حسن منسنج قليل البياض جدا، دال على أنه لم يستكمل نضجه على نباته. ولذلك شبهه الأوائل بالزوان من القمح. ولهذه الخصلة صار مذموما جدا لا يصلح لشئ من التغذية. ويدل على ذلك أنه لا يفتقع (5) في الماء إذا طبخ ولا يزيد أصلا.
والأول من هذه الأنواع أفضل لعمل الخبز، لان فيما يداخله من الخمير والملح، وما يلحقه من إحكام الصنعة في عجنه وعركه وتخميره وإنضاجه بنار معتدلة، ما يزيل عنه أكثر لزوجته وغلظه ويكسبه جودة غذاء وسرعة انهضام. وأما النوع الثاني الأبيض السمين الأملس السطح الممتد القشر، فإنه أفضل لعمل الحسو وأحمد، لأنه لسخافته وتخلخله، يداخله الماء بسرعة ويربو وينتفخ فيه إذا طبخ، فتزول عنه لزوجته وغلظه. ولذلك قال الفاضل أبقراط: إن أفضل الشعير لعمل الكشك، ما كان أبيض ممتد، أملس السطح، ممتد القشر سخيف الجسم كثير التخلخل ذكي الرائحة، متوسط بين القديم والحديث، لان الحديث فيه رطوبة فضلية زائدة في لزوجته مانعة من انتفاخه وانحلاله في الماء إذا طبخ به، لان الماء لا يداخله لغلظه ورطوبته الجوهرية، وصيره قحلا جافا عسير الانتفاخ والانحلال في الماء إذا طبخ به، لان الماء لا يداخله لاستحصافه وكثافته.
ولذلك صار أفضل الشعير ما له مدة صالحة في موضع جاف غير ندي لينشف الهواء رطوبته الفضلية ويجففها ويتخلخل جسمه وتقل لزوجته، ولا يكون للحسو المتخذ منه لزوجة يعسر بها انهضامه