يقول الأمير للمبارز من عسكره: جعلت فلانا قرنك في المبارزة، وإنما يعني بذلك أنه أمره بمبارزته، لأنه إذا أمره بمبارزته، فقد جعل من يبارزه قرنا له. وثانيها: إن معناه حكمنا بأنهم أعداء، وأخبرنا بذلك لتعاملوهم معاملة الأعداء في الاحتراز عنهم، والاستعداد لدفع شرهم، وهذا كما يقال: جعل القاضي فلانا عدلا، وفلانا فاسقا، إذا حكم بعدالة هذا، وفسق ذلك، وثالثها: إن المراد خلينا بينهم وبين اختيارهم العداوة لم نمنعهم عن ذلك كرها، ولا جبرا، لأن ذلك يزيل التكليف.
ورابعها: إنه سبحانه إنما أضاف ذلك إلى نفسه، لأنه سبحانه لما أرسل إليهم الرسل، وأمرهم بدعائهم إلى الاسلام، والإيمان، وخلع ما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان، نصبوا عند ذلك العداوة لأنبيائه عليهم السلام. ومثله قوله سبحانه مخبرا عن نوح عليه السلام: (فلم يزدهم دعائي إلا قرارا) والمراد بشياطين الإنس والجن: مردة الكفار من الفريقين، عن الحسن، وقتادة، ومجاهد. وقيل: إن شياطين الإنس الذين يغوونهم، وشياطين الجن الذين هم من ولد إبليس، عن السدي، وعكرمة.
وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس أن إبليس جعل جنده فريقين، فبعث فريقا منهم إلى الإنس، وفريقا إلى الجن فشياطين الإنس والجن أعداء الرسل والمؤمنين، فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، في كل حين، فيقول بعضهم لبعض أضللت صاحبي بكذا، فأضل صاحبك بمثلها، فكذلك يوحي بعضهم إلى بعض. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أيضا أنه قال: إن الشياطين يلقى بعضهم بعضا، فيلقي إليه ما يغوي به الخلق حتى يتعلم بعضهم من بعض (يوحي) أي يوسوس ويلقي خفية (بعضهم إلى بعض زخرف القول) أي المموه المزين الذي يستحسن ظاهره، ولا حقيقة له، ولا أصل (غرورا) أي:
يغرونهم بذلك غرورا، أو ليغروهم بذلك (ولو شاء ربك ما فعلوه) أخبر سبحانه أنه لو شاء أن يمنعهم من ذلك جبرا، ويحول بينهم وبينه، لقدر على ذلك، ولو حال بينهم وبينه، لما فعلوه، ولكنه خلى بينهم وبين أفعالهم إبقاء للتكليف، وامتحانا للمكلفين. وقيل: معناه ولو شاء ربك ما فعلوه بأن ينزل عليهم عذابا، أو آية، فتظل أعناقهم لها خاضعين (فذرهم وما يفترون) أي: دعهم وافتراءهم الكذب، فإني أجازيهم وأعاقبهم. أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يخلي بينهم وبين ما اختاروه، ولا يمنعهم منه بالقهر، تهديدا لهم، كما قال اعملوا ما شئتم دون أن يكون أمرا واجبا،