إقامة الحدود ثانية * قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه بعون الله تعالى فنظرنا في قول أبي حنيفة فوجدناهم يحتجون بان قالوا: ان أخذ الصدقات إنما جاء التضييع من قبل الامام فقد يجب عليه دفعهم، وأما من مر عليهم فقد عرض ماله للتلف * قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير هذا وهذا لا شئ لأنه لم يأت نص ولا اجماع بان تضييع الامام يسقط الحقوق الواجبات لله تعالى، وأيضا فكما أخذوا العشر ثانية ممن جعلوا ذنبه انه عرض ماله للتلف فكذلك يلزمهم ان يأخذوا الزكاة ثانية ويجعلوا ذنب أهلها انهم عرضوا أموالهم للتلف فقد كان يمكنهم الهرب عن موضع البغاة أو يعذروا المعشرين * ثم نظرنا فيما احتج به مالك. والشافعي فوجدناهم يقولون:
انهم إذا حكموا بالحق كما امر الله تعالى وإذا أخذوا الزكاة كما امر الله تعالى وأقاموا الحدود كما أمر الله تعالى فقد تأدى كل ذلك كما امر الله تعالى وإذا تأدى كما امر الله تعالى فلا يجوز ان يقام ذلك على أهله ثانية فيكون ذلك ظلما * وقال بعضهم كما لا يؤاخذون بما أصابوا من دم أو مال فكذلك لا يؤاخذون هم ولا غيرهم بما حكموا أو أقاموا من حد أو أخذوا من مال صدقة أو غيرها بحق أو بباطل ولا فرق * قال أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ليس كما قالوا وذلك اننا نسألهم فنقول لهم:
ماذا تقولون: إذا كان الامام حاضرا ممكنا عدلا أيحل ان يأخذ صدقة دونه أو يقيم حدا دونه أو يحكم بين اثنين دونه أم لا يحل ذلك؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث، فان قالوا:
هذا كله مباح خرقوا الاجماع وتركوا قولهم وأبطلوا الأمانة التي افترضها الله تعالى وأوجبوا ان لا حاجة بالناس إلى امام وهذا خلاف الاجماع والنص، وان قالوا: بل لا يحل أخذ شئ من ذلك كله ما دام الامام قائما فقد صح انه لا يحل أن يكون حاكما الا من ولاه الامام الحكم ولا أن يكون آخذا للحدود الا من ولاه الامام ذلك ولا أن يكون مصدقا الا من ولاه الامام اخذها فإذ ذلك كذلك فكل من أقام حدا أو أخذ صدقة أو قضى قضية وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الامام فلم يحكم كما امره الله تعالى ولا أقام الحد كما امره الله تعالى ولا أخذ الصدقة كما امره الله تعالى فإذ لم يفعل دلك كما أمر فلم يفعل شيئا من ذلك بحق وإذ لم يفعل ذلك بحق فإنما فعله بباطل وإذ فعله بباطل فقد تعدى، وقال تعالى: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه آمرنا فهو رد " فإذ هو ظلم فالظلم لا حكم