الأطماع من كل طرف وأصبح الحكم بيد الاعراب، واخذت النزعة الشعوبية تتحكم، وتعمل جهدها للقضاء على العنصر العربي.
في هذه الفترة العصيبة قام سيف الدولة وأسس الدولة الحمدانية في حلب (1) واتخذ من قلعتها الحصينة معقلا ليرد الغزاة، ويصون ارض الوطن العربي من الغزوات البيزنطية.
كان موقفه من الصعوبة بمكان أسس جيشا جعله عدته في الكفاح.
وكان همه قبل كل شئ ان يصد البيزنطيين عن التوغل في الأرض العربية. فاستلم زمام المبادهة، ونقل الحرب إلى الأرض البيزنطية، ونستطيع ان نقول إن الدور الخطير الذي لعبه عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، وبعدهما صلاح الدين في رد حملات الغزاة الأوروبيين الذين تجلببوا في رداء الصليبيين قد لعبه قبلهم سيف الدولة في رد هجمات البيزنطيين الذين كانوا يحملون باستعادة سيطرتهم على الشرق العربي بعد ان لمسوا هذا التفكك المريع الذي عصف بالدولة العباسية، وانتهى بقيام امارات هزيلة أخذت تتقاتل على عروش واهية.
نعم كانت مهمة سيف الدولة في غاية الخطورة، ولكنه كان من أولئك الأفذاذ، الذين تتضاءل الاحداث امامهم مهما عصفت ومهما عظم شأنها.
ولا نستغرب هذا من عربي يغلي دم العروبة في كل خالجة من خوالج نفسه ونحن نعلم أن الحمدانين بطن من تغلب بن وائل من العدنانية اي انهم يتحدرون من أصل عربي صميم، من العدنانية التي ولدت العربية في كنفها.
لقد آلمه ان يصبح هذا الملك العريض الذي بناه الأجداد بيد المتغلبين من غير العرب، وهو في طريقه لان يصبح بيد البيزنطيين فاقسم ان يبذل الدم سخيا للحفاظ على ذياك المجد الأثيل.
خاض سيف الدولة مع البيزنطيين أكثر من أربعين معركة...
ووصلت طلائع جيشه إلى قلب الأناضول حتى كادت تصل إلى استانبول... كانت معاركه وغزواته أناشيد في فم الشعراء.
ومن يرجع إلى قصائدهم التي تغنوا فيها ببطولاته يرى العجب، ما كان شعر أكثرهم مدحا بقدر ما كان وصفا للمعارك. وشعر المديح أريد مدح القادة الذين يخوضون غمار المعارك وهو لون من الشعر البطولي لأنه يقص وقائع خاضها بطل.
وكان يروق لسيف الدولة ان يصطحب معه الشعراء ليروا بام أعينهم المعارك، فإذا وصفوا، وصفوا واقع معاركه وحقيقة غزواته وبطولاته ولم يهيموا في أودية الخيال.
وقصائد المتنبي أريد سيفياته التي جاوزت الثمانين قصيدة ومقطوعة هي روائع الأدب العربي في تصوير معارك البطل الحمداني.
تسع سنوات كاملة والمتنبي لم يفارق سيف الدولة، ولا سيما في فترات الجهاد التي مرت من أفق حياته، وكان لهذه الصحبة اثرها البليغ في صغره.
وقد ذهب الدكتور طه حسين إلى أن شعره في سيف الدولة ان لم يكن من أجمل شعره وأروعه وأحقه بالبقاء فهو من أجمل الشعر العربي كله وأروعه وأحقه بالبقاء.
وسر ذلك، كما أرى، ان المتنبي رافق سيف الدولة في بعض غزواته، وشهد معاركه، فوصف البطولة العربية وصفا دقيقا لا تجده في شعر غيره من الشعراء الذين وصفوا معاركه أو معارك غيره من القادة. ولا مجال هنا للمقارنة والإفاضة في هذا الموضوع الذي تقتضيه دراسة واسعة.
هذا القائد البطل الذي رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدى كان رمزا في المغامرة والشجاعة. والى هذا أشار المتنبي بقوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة * ووجهك وضاح، وثغرك باسم وقال:
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم * ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا سراياك تترى والدمستق هارب * أصاحبه قتلى وأمواله نهبي يقول شلمبرغر في كتابه عن القائد البيزنطي نيقفور فاكاس:
ان المتصفح لمقتطفات التاريخ البيزنطي في منتصف القرن العاشر، ولاكثر من عشرين سنة، أي من سنة 945 إلى سنة 967 يجد اسما وحيدا يطفو على كل صفحة من صفحات ذلك التاريخ كانسان قوي شجاع لا يكل ولا يتعب وكان عدوا لدودا للإمبراطورية الرومانية، ذلك هو أمير حلب سيف الدولة بن حمدان الذي كان قاسيا طموحا ولم يعبأ بأي الوسائل في سبيل الحصول على الأموال للانفاق على جيوشه، وبالرغم من ذلك فكان يتمتع بشجاعة فائقة لا يعرف الخور إليه سبيلا، كما كان يوصف بأنه حامي الآداب والفنون.
هذا القائد الذي رفعت به العرب العماد لم تصرفه المعارك عن أن يجعل من حلب بيئة خصبة للآداب والفنون، ولشتى أنواع الترف ومباهج الحضارة.
فقد فتح قصره كما يذكر شلمبرغر أيضا لكل فنان، موهوب و أديب فذ، فوفدوا عليه من جميع الأطراف، من العراق، من فارس، من الشام، من بيزنطة، من البندقية وجنوى، وكان يستمع إلى الشعراء ويتحبب إلى الكتاب والمصورين، ويمنح المؤرخين الشئ الكثير من عطاياه ومنحه فيعود هؤلاء إلى بلادهم حاملين إلى شعوبهم صورة رائعة عن خلق الرجل العالي وشخصيته العجيبة.
هذه الرواية الأجنبية التي تتسم بالصدق تقابلها الرواية العربية على لسان الكثير ممن عاصروه وفي طليعتهم الثعالبي حين قال: إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر.
وكما اعتنى بكل ما يضفي على عاصمته أبهى مظاهر الحضارة، كان قصره روعة في الفن والبناء، فقد جاء بأحذق المهندسين وأمهر المصورين،