وقت الأكل أربعة وعشرون طبيبا (1)، وان دل هذا الخبر على شئ رغم المبالغة الظاهرة فيه فإنما يدل على وفرة الأطباء في حلب في عهد سيف الدولة، وقد شارك بعض هؤلاء الأطباء في الترجمة والتآليف فكان عيسى الرقي الطبيب يترجم من السريانية إلى العربية، وألف الحسين بن كشكرايا كناشه المعروف بالحاوي، وكان طبيبا لعضد الدولة ثم لسيف الدولة.
وفي الهندسة والرياضة والفلك عاش في عصر سيف الدولة ومملكته أبو القاسم الرقي المنجم، والمجتبى الأنطاكي، ودينسيوس بطريرك اليعاقبة، وقيس الماروني ولكل واحد منهم مؤلفات جليلة.
وفي الفلسفة عاش الفارابي في كنف سيف الدولة.
وفي اللغة وعلومها ألف الحسين بن خالويه كتبا كثيرة مثل كتاب أسماء الأسد، واعراب ثلاثين صورة، وكتاب البديع في القراءات، وكتاب الاشتقاق، وكتاب ليس في كلام العرب، وكتاب اشتقاق خالويه وكتاب الالفات، وشرح مقصورة ابن دريد، وكتاب المذكر والمؤنث، وكتاب الجمل في النحو.
وألف ابن جني كتبا كثيرة أهمها كتاب الخصائص، وسر صناعة الاعراب، و المنصف في شرح تصاريف المازني، كما عدد له ياقوت كثيرا من الكتب التي ضاعت وليس لدينا الا أسماؤها (2) وألف أبو علي الفارسي أثناء وجوده في حلب كتاب المسائل الحلبية، وكان أبو علي إذا حل في مدينة جلس للدرس، ولقد زار أكثر مدن الشرق الاسلامي وله في كل بلدة حل بها كتاب يضم درسه فيها و ما عرض له من مسائل مثل كتاب المسائل البغدادية وكتاب المسائل الشيرازية، وكتاب المسائل البصرية، وكتاب المسائل القصرية، وكتاب المسائل الدمشقية، وكتاب المسائل العسكرية، فضلا عن كتبه الأخرى الكثيرة التي ألفها بعيدا عن حلب (3).
وفي الجغرافيا ألف ابن حوقل الموصلي كتاب المسالك والممالك. هذا وقد شارك بعض شعراء سيف الدولة في التأليف والتصنيف، فالشاعران الخالديان ألفا وصنفا كتبا كثيرة أهمها كتاب حماسة شعر المحدثين، وكتابا في اخبار أبي تمام ومحاسن شعره، وكتاب اخبار الموصل، وكتابا في اخبار شعر ابن الرومي، وكتاب اختيار شعر البحتري، وكتاب اختيار شعر مسلم بن الوليد (4) وكتاب الديارات وألف السري الرفاء الشاعر كتاب الديرة، وكتاب المحب والمحبوب، وكتاب المشموم والمشروب (5). وألف كشاجم كتاب أدب النديم وكتاب المصايد والمطارد.
سيف الدولة القائد لعل من الأمور التي تلفت النظر إلى سيف الدولة القائد المحارب هذه الجرأة التي دفعته إلى أن يغزو الإمبراطورية البيزنطية أكثر من مرة وكان لا يزال في الخامسة والعشرين من عمره، وكيف أوغل بجيشه المحدود العدد في داخل الأراضي البيزنطية فاضطر الدمستق ان يخرج إليه على رأس مائتي ألف جندي مجهزين أحسن تجهيز فانتصر عليهم سيف الدولة وأسر سبعين بطريقا واستولى على سرير الدمستق وكرسيه.
ومن هذه الجرأة أيضا ما قام به من غزو في أرض الروم ولم يكد يمضي على الغزوة السابقة سنتان، وما كان من توغله في أراضي الإمبراطورية ووصوله إلى مواضع لم تطأها قدما مسلم من قبل، وتحديه للامبراطور ونزوله إلى قلونية.
بل كيف قاد سيف الدولة جيوش أخيه ناصر الدولة وحارب البريديين وانتصر عليهم واسترد منهم بغداد، وطاردهم إلى واسط.
الأباطرة الذين نازلهم سيف الدولة ان الانتصار على جيش ضعيف تحت قيادة قائد مغمور أمر يسير غير خطير، بل لا يكاد يعد انتصارا، ولكن تعظم قيمة النصر كلما كان العدو خطيرا وجيشه كبيرا وقائده ماهرا، ومن هنا يمكن تقدير انتصارات سيف الدولة حق قدرها، لقد كانت الجيوش البيزنطية التي يواجهها سيف الدولة يربو عددها في الموقعة الواحدة على مائتي ألف محارب أحيانا، وهم بعد ذلك من أجناس مختلفة بين روس وبلغار وروم وصقلب وأرمن وخزر، فجيش البزينطيين على حد قول المتنبي:
تجمع فيه كل لسن وأمة * فما يفهم الحداث الا التراجم فإذا ما نظرنا إلى القادة الذين كانوا يقودون هذه الجيوش وجدناهم الأباطرة البيزنطيين أنفسهم، ومن بين هؤلاء أخطر قائدين عرفتهما بيزنطة ونعني بهما برداس فوكاس ثم اخوه نقفور فوكاس ومن قبلهما قسطنطين ليكابينوس الذي تحداه سيف الدولة في غزواته قبل الملك.
فاما برداس فقد القى بسيف الدولة في عدة معارك، وعلى رغم كثافة جيوشه لم يحرز نصرا مشرفا واحدا، بل كان يفقد في كل معركة جانبا كبيرا من جيشه وعددا خطيرا من بطارقته أي قواده ثم اكتمل سوء حظه حينما التقى بسيف الدولة قرب مرعش سنة 342 ه 953 م وفي هذه المعركة جرح برداس في وجهه ووقع ابنه قسطنطين أسيرا في يد سيف الدولة فضلا عن أسرى آخرين من القواد (6).
وكانت هذه المعركة من أكبر ما مر على البيزنطيين من نكبات فبعدها حزن برداس حزنا شديدا على أسر ولده ودخل الدير مترهبا وتسابق شعراء سيف الدولة فوصفوا هذه الحادث الفريدة وصفا بارعا فيقول أبو الطيب المتنبي والخطاب موجه إلى الإمبراطور البيزنطي:
نجوت بإحدى مهجتيك جريحة * وخلفت إحدى مهجتيك تسيل أ تسلم للخطية ابنك هاربا * ويسكن في الدنيا إليك خليل بوجهك ما أنساكه من مرشة * نصيرك منها رنة وعويل نقفور فوكاس وكان هذا القائد من أمهر واقسى القواد البيزنطيين، كان قبل توليه القيادة والملك قائدا عاما للقوات البيزنطية البرية والبحرية في الجبهة الغربية وقد نجح فيما أخفق فيه كثير من القواد السابقين حينما استطاع استعادة جزيرة كريت من يد العرب سنة 350 ه أي 961 م (7).