وأبرع البنائين، والنجارين، يعنون ببناء وفرش هذا القصر على أفخم طراز، أبدع ما تضمنه أباطرة الرومان.
وصف المستشرق دايفس القصر في قصته عن سيف الدولة بقوله:
وعند ما افتتحت أبواب القصر للمرة الأولى كان ذلك مثار الدهشة والاعجاب، لأن الأبواب كانت من البرونز النحاسي نقشت عليها ألوف التصاوير المستغربة الجميلة، وهي تدور على قواعد من الزجاج، وإذا تدخل الباب تواجهك قاعات متتابعة ملأى بالأعمدة المرمرية المزركشة الموشاة بالذهب والفضة، وقد جعل الرسامون رسم الزهور في أواسط القبب العالية حيث حفروا بين جهة وأخرى آيات من كتاب الله الكريم بأحرف كوفية جميلة، وأبيات مختارة لأعاظم الشعراء بأحرف فارسية فتانة.
وكان للقاعة الكبرى خمس قبب بلون اللازورد يحملها 142 عمودا من المرمر المزركش بالفضة والذهب، تنيرها ألوف النوافذ الزجاجية الملونة وفي وسط كل عمود خرجت زهريات ملأى بالزهور والنباتات.
أين هذا القصر؟ وهل بقي شئ من معالمه؟
من المؤسف، والا لم يجز في نفوسنا ان نقول: لا، فقد كانت طبيعة الحروب في تلك الفترات، وكما هي دائما الحرق والتدمير، وكان من نتيجة تلك الغزوات والحروب، ان خسرت حلب أعظم اثر تاريخي يرمز إلى جمال الفن العربي المزيج من الفن البيزنطي، كما يرمز إلى نزعة الروح الفنية التي كانت تخالج نفس هذا الأمير العربي الذي استطاع في الفترة القصيرة التي عاشها في حلب ان يجعل لمملكته ذكرا كاد يضفي على الكثير من الممالك الكبرى.
لقد استطاع هذا البطل العربي، بالرغم من الحروب الداخلية التي شنها عليه الأخشيديون وبالرغم من الفتن التي اثارها رجال القبائل، وبالرغم من دخول البيزنطيين حلب أكثر من مرة بعد ان أعدوا جيشا ضخما بلغ تعداده المائتي ألف مقاتل بغية استعادة سيطرتهم على الوطن العربي، وان يصون الشام من غزوهم، والى هذا أشار المتنبي حين اعتبر حروبه مع البيزنطيين ليست لحماية حلب وحماية بلاد الشام فقط، بل لحماية مصر والعراق.
ليس أأرباب يا علي همام * سيفه دون عرضه مسلول كيف لا يا من العراق ومصر * وسراياك دونها والخيول لو تحرفت عن طريق الأعادي * ربط السدر خيلهم والنخيل ودرى من اعزه النفع عنه * فيهما انه الحقير الذليل أنت طول الحياة للروم غار * فمتى الوعد ان يكون القفول وسوى الروم خلف ظهرك روم * فعلى أي جانيك تميل قعد الناس كلهم عن مساعيك * وقامت بها القنا والنصول ما الذي عنده تدار المنايا * كالذي عنده تدار الشمول وهكذا، فقد كان يحارب وحده، وظل في صراع مرير حتى مات.
وقال أديب التقي:
المتنبي وسيف الدولة في يوم من الأيام الضاحكة من سنة 337 للهجرة، وفي دار من أعز دور أنطاكية أهلا ورحابا، وأعلاها في المكارم والمحامد بابا، احتشد حفل من علية الناس، وكبراء القوم... وتلاقى في هذا الحفل على بساط واحد عمائم الفقهاء والعلماء، وقلانس البطاركة والمطارين وخوذ الشجعان والفرسان... وزخرت الردهة الكبرى في الدار بمختلف أصحاب المقامات الضخمة من رجال السياسة والزعامة وأكابر القادة وذوي الوجاهة والنباهة.
هذه الدار هي دار الأمير أبي العشائر الحمداني الأمير الشاب الذي كان كغيره من امراء البيت الحمداني علما من اعلام الفروسية والأدب، وبطلا من ابطال السيف والقلم. وكانت ضفاف العاصي في أنطاكية، والطرق المؤدية إلى الدار تنتغش بالمارة والنظارة الذين سدوا المنافذ ليشرفوا على الغادي والرائح بين الجماعات التي تغشى الدار والوفود التي تقصد إليها.
ويظهر ان أنطاكية التي تعودت ان تشهد بين حين وآخر أمثال هذه الاحتشادات والتجمعات وألفت تلك الدار ان تضم ردعتها هؤلاء الاجلاء من الناس للاحتفاء برجل الدولة الحمدانية الكبير وبطل العروبة الفذ الأمير سيف الدولة.
وكان يعقل النظر في هذا المجتمع شاب حذر اللفتات، حاد النظرات، ما تكاد تستقر حدقة عينيه، ولا تقف لحظاته وتاملاته. هذا الشاب كان غريبا عن أنطاكية واهليها، غريبا عن كل شئ فيها، هو احمد ابن الحسين أبو الطيب المتنبي. وربما كان مجلسه القريب من الأمير أبي العشائر والي أنطاكية، والأمير الكبير سيف الدولة هو تعزيته عن وحدته وتسليته عن كربته، فيبدد من كآبة غربته وكمدة وحشته فتبدو بين فترة واخرى على وجهه ابتسامات الجذل وامارات الاغتباط وكان الأمير الكبير يبادله نظرات الاعجاب والاكبار، ويلحظ كل منهما الآخر لحظات تستثير الذكريات وتعود بهما إلى الماضي غير البعيد عندما تعارف الوجهان لأول مرة وتمازج القلبان للنظرة الأولى. لقد كانت أنطاكية سنة 337 للهجرة موثقة بين هذين القلبين، علائق رأس عين سنة 321 وكان هذا الاجتماع محققا للأهداف والآمال التي جاءت وليدة ذلك التلاقي ونتيجة هذا الاتصال نعم لقد التقى المتنبي بسيف الدولة سنة 321 في رأس عين وكان من ثمرات هذا الالتقاء أول قصيدة مدح فيها المتنبي سيف الدولة وهي القصيدة التي أولها:
ذكر الصبا ومراتع الارام * جلبت حمامي قبل وقت حمامي وقد ذكر فيها ايقاعه بعمرو ابن حابس وبني ضبة سنة 321 للهجرة.
وفي هذا الاجتماع الثاني جدد التعارف بينهما الأمير أبو العشائر، وجاءت ثمرة هذين الاجتماعين عظيمة وجد عظيمة في تاريخ سيف الدولة الأدبي والسياسي والحربي، ومؤثرة جد مؤثرة في خلود البطلين بطل العلياء والهيجاء علي بن حمدان وبطل الأدباء والشعراء أحمد بن الحسين. وظل سيف الدولة بأنطاكية أشهرا من هذه السنة وأبو الطيب معه لا يفارقه وفي هذه المدة استطاع كل منهما ان ينفذ إلى روح الآخر، ويقف على دخائله، وكان لهذا الاتصال روعة واثر عميق في نفس المتنبي دل عليهما قوله في أول قصيدة انشدها بهذا اللقاء:
سلكت صروف الدهر حتى لقيته * على ظهر عزم مؤيدات قوائمه فأبصرت بدرا لا يرى البدر مثله * وخاطبت بحرا لا يرى العبر عائمه