ومعي أينما سلكت كأني * كل وجه له بوجهي كفيل ومما جاء في الثالثة:
وما لاقني بلد بعدكم * ولا اعتضت من رب نعماي رب ومن ركب الثور بعد الجوا * د أنكر أظلافه والغبب وما قست كل ملوك البلاد * فدع ذكر بعض بمن في حلب ولو كنت سميتهم باسمه * لكان الحديد وكانوا الخشب أ في الرأي يشبه أم في السخاء * أم في الشجاعة أم في الأدب ليلاحظ قوله: والمسمون بالأمير كثير والأمير الذي بها المأمول وقوله ونداه مقابلي ما يزول وقوله وما اعتضت عن رب نعماي رب كيف جعله المأمول دون كل من تسمى أميرا، وعده رب نعماه، وكيف جعل الملوك من الخشب وجعله من الحديد وهم لا يشبهونه سخاء ولا شجاعة ولا أدبا، ثم اعتذاره عما خلعه على غيره من الملوك والألقاب والنعوت وقوله ولو كنت سميتهم باسمه لكان الحديد وكانوا الخشب كل هذا يؤيد ما قاله، حينما سئل عن تراجع شعره بعد مفارقته سيف الدولة: قد تجوزت في قولي وأعفيت طبعي، واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان.
وكان شعر المتنبي قد لازم سيف الدولة مدة من 337 346 ممثلا عظمة الأمير الحمداني الكبير وحروبه ووقائعه. وقد تعمد المتنبي ان يضع لأمير في أعلى منزلة يستطيع التحليق فيها شعر الشاعر وخياله، وبلغ ما قاله ثلث شعره، ولم يجئ شعره فيه من نوع ذلك الشعر الذي تلوكه ألسنة الشعراء في الممدوحين ولا صله له بقلوبهم وعواطفهم فأبو الطيب نظم ما نظم في سيف الدولة وهو في ذلك انما يترجم عن قلبه وينحت من عاطفته وصدق ايمانه فيه. وقد دام هذا الاخلاص حتى في أيام التشرد التي قضاها المتنبي في مصر والعراق أ لم يقل في مصر:
فارقتكم فإذا ما كان عندكم * قبل الفراق اذى بعد الفراق يد إذا تذكرت ما بيني وبينكم * أعان قلبي على الشوق الذي أجد وقال في القصيدة التي أنفذها إليه من الكوفة:
لست أرضى بان تكون جوادا * وزماني بان أراك بخيل نغص البعد عنك قرب العطايا * مرتعي مخصب وجسمي هزيل ان تبوأت غير دنياي دارا * واتاني نيل فأنت المنيل وقال في قصيدته الثانية التي أنفذها من الكوفة أيضا:
واني لاتبع تذكاره * صلات الاله وسقي السحب وأثنى عليه بآلائه * وأقرب منه نأى أو قرب وان فارقتني امطاره * فأكثر غدرانها ما نضب وربما كان موضع ملاحظة ترك المتنبي خلفاء بني العباس ومدحهم والانصراف عنهم إلى الحمدانيين. والحق ان المتنبي لم يجد في البلاط العباسي يومئذ ما يحقق أهدافه ومن هذه الاهداف رؤيته العنصر العربي مسيطرا عزيز الوجه والنفس واللسان. وهذا الهدف تحقق في البلاط الحمداني في قرب أعز العرب دارا وزمانا وسلطانا الأمير سيف الدولة. وقد روي أن أبا سعيد المجيمري عذله على تركه لقاء الملوك وامتداحهم فقال له:
أبا سعيد جنب العتابا * فرب رأي أخطأ الصوابا فإنهم قد أكثروا الحجابا * واستوقفوا لردنا البوابا وان حد الصارم القرضابا * والذابلات السمر والعرابا ترفع فيما بيننا الحجابا وقال في قصيدة له أيضا يعرض بهؤلاء الملوك المستضعفين:
أ يملك الملك والأسياف ظامئة * والطير جائعة، لحم على وضم من لو رآني ماء مات من ظما * ولو عرضت له في النوم لم ينم وقد شغف المتنبي كل الشغف بتصوير وقائع سيف الدولة وألهاه ذلك لا بل صرفه عن الفن الحضري الذي يتناول الحياة الاجتماعية من شتى وجوهها فيصفها أدق وصف. ومثل هذا النمط من الوصف تجده في شعر شعراء الحضر مثل البحتري وابن الرومي وغيرهما من وصف القصور والبرك ومجالس اللهو والقيان وشبيهه. إما المتنبي فيتعذر وجود شئ من ذلك في شعره كان لم يكن في عهد سيف الدولة صور اجتماعية جديرة بقلم المتنبي الشعري وان يتناولها بوصف أو ذكر. والحقيقة ان الرجل انصرف إلى ما تتوق إليه نفسه من الشعر وما يلائم طبعه من وصف المعارك والجيش ووصف القتال وساحات القتال، وغير هذا الوصف انما جاء في شعر المتنبي عرضا وعلى وجه الاقلال.
وقد نشأ المتنبي في عصر يشبه عصر الفتوة في أوروبا فلا غرابة إذا رأيناه ينشط لأعمال الفروسية ويرتاح لمغامرات الشباب ويقبل على الأخذ بأساليب الترويض الذي اراده عليه سيف الدولة وهو لم يكن في أول اتصاله بسيف الدولة من الشجاعة في المكان الذي وضعه فيه المغالون وانما قويت فيه ملكات هذه الشجاعة بعد اتصاله بسيف الدولة وما روضه عليه من أفانينه حتى قطع من بعد صحراء التيه وفدافد البادية وحده، وأبى ان يسير بغير خفارة سيفه من واسط إلى بغداد، وإذا أكسبته صحبة سيف الدولة العز والمال وقوة الشعر فهي أيضا قد أكسبته هذه الشجاعة وعلمته الجرأة وحببت إليه مواقف البطولة.
وقد حققت له صحبة سيف الدولة فكرته حينما قيل له وهو في المكتب ما أحسن وفرتك فقال:
لا تحسن الوفرة حتى ترى * منشورة الضفرين يوم القتال على فتى معتقل صعدة * يعلها من كل وافي السبال فقد رافق سيف الدولة في كثير من حروبه وغزواته، وانتشر ضفر الوفرة كما نعلم، واعتقل الصعدة... واعلها كما شاء من كل وافي السبال.
وكان يقال إن المتنبي خلق سيف الدولة بمدائحه كما خلق كافور بهجائه، وقد وهم هؤلاء القائلون... ولو شاؤوا لعرفوا ان سيف الدولة هو الذي خلق المتنبي ولولاه لكان كغيره من شعراء عصره، ولما كان تغذى شعره وعبقريته بتلك الروائع من مقلدات المعاني التي خلعتها عليه نفس سيف الدولة، ووقائعه وأهدافه. وهذا ليس بضائر أن تكون قصائد المتنبي في سيف الدولة هي التي خلدت وقائعه ونقلتها إلى الأجيال صورا ومرائي تعكس إلى الأحفاد عظمة الأجداد وتصور لهم طموحهم وشممهم وما بلغوه من عز وكرامة ورفعة واستعلاء. وهذه القصائد كانت وما زالت من عهد سيف الدولة إلى اليوم من أقوى العناصر التي غذت أدبنا العربي. ومن أروع الألواح الشعرية التي تباهي بها العربية والعروبة. وهي أيضا من أجل الوثائق وأصدقها على نهضة العلم والأدب العظمى التي قامت على