الأدباء وأفسح لقائله مجال الاتصال بأعيان البيان، فانعقدت أواصر الصداقة بينه وبين البارودي وصبري وحافظ ومطران، وهم في الرعيل الأول بين فرسان البلاغة، كما أن بين كبار الأدباء المصريين من أعجب به وأفاد منه كثيرا في مقدمتهم مصطفى صادق الرافعي، وإن مزاياه الشعرية بميزان ذلك الطور رفعته إلى مقام عال فعدوه في الطبقة الأولى بين الشعراء، ومما يؤثر أن أدباء العراق لم يكونوا يرون له هذا الفضل الكبير، كما أثبت هذه الملاحظة الأفاضل العامليون الثلاثة الذين جمعوا المختار من شعره عشرة شعراء عراقيين، وطبعوه في صيدا بعنوان العراقيات ولكن هذا لم يحل دون اتساع شهرة الكاظمي في مضمار الشعر الرصين ونعته بشاعر العرب وأن يظل قرابة خمسين سنة ينشد الجزل الرقيق فيحظى بالسيرورة في العالم العربي، ويتناقل شعره الرواة مستجيدين، ويعده المصريون ترجمان العروبة الصادق، ويهول المتصفح لفيض طبعه ودعوته الصارخة هذا الأمد الطويل إلى احياء مجد العرب، واستجلاء ألواح تاريخهم المجيد.
تزوج عام 1915 فتاة مصرية، وهي عائشة محمود التونسي، وأنجب منها بنين وبنات، لم يعيشوا إلا أياما، فما خلف غير بنت هي السيدة رباب، التي كان يحبها حبا جما، وقال فيها شعرا رقيقا، تغزل بها صبية تغزلا معجبا نم عما تشغله من قلبه الثاكل.
وكانت خاتمة حياته في مصر الجديدة من ضواحي القاهرة يوم الخميس في 2 مايو سنة 1935 ودفن فيها، وانتبهت حكومة العراق بعد حين، قررت أن تكرم شاعر الشطين بعد أن غيبته الصفائح، فشيدت له ضريحا لائقا في مقبرة الإمام الشافعي في العاصمة المصرية، نقلت رفاته إليه في حفل يوم 1 مايو سنة 1947.
والمزية التي تفرد بها، بحيث سبق الأنداد والنظراء، هي طول النفس في الشعر، والارتجال على البداهة. لا يقف عند ارتجال البيتين أو الأبيات الأربعة، بل يتجاوز إلى العشرات بل المئات، وقد سجل له تاريخ الحركة الأدبية في هذا الميدان تفوقا مميزا.
واختص بطريقة في تغنيه بشعره تغنيا بدويا، وقد أخذ عنه حافظ إبراهيم هذا التغني بمنظومه.
أما شعره وقيمته الفنية فتعلو على الأكثر من ناحية الأسلوب الجزل وروعة الديباجة ومكان الابداع في صدق لهجته وانطباعه على القول.
وأكثر نظمه من وحي الساعة. ومن جماع ظروفه ونشأته وثقافته العربية تولدت عنده هذه الخصائص، فمشى على غرار قدماء الشعراء الذين اكتنزت حافظته روائعهم. فاحتذاهم في الطراز، ولم يقلدهم في معانيهم، وإن تميزت ألفاظهم وتعابيرهم في نسج قصائده، فذلك محصوله من اللغة وفصيح العبارة.
ولكنه لم يكن يتقعر أو يغرب في التلفظ أو التصوير. وعبد المحسن وإن لم يحلق بعيدا في أجواز الشعر فهو لم يسف أيضا إلى درك الابتذال.
ويظهر أنه قد عالج التأليف في فجر شبابه، فألف كتاب البيان الصادق في كشف الحقائق في وصف بعض أدواء المجتمع. وكتاب تنبيه الغافلين وليسا موجودين الآن، ولعلهما من جملة ما فقد من آثاره أوقات الحرج قبل أن يغادر وطنه الأول. وقد طبع له بعد وفاته ديوان كبير.
انتهى.
وروى سليم سركيس في مجلته عندما احتفى بالشاعر الكاظمي، إن الدكتور شدودي تلا قصيدة مدح بها الشاعر المحتفى به فلما فرع من تلاوتها أجابه الكاظمي عليها مرتجلا قصيدة كبرى من بحر القصيدة التي مدحه بها الطبيب شدودي، ويقول سركيس: كنا أكثر من كاتب نسجل ما ينظم فلا نلحق به.
فمن هذه القصيدة قوله يخاطب الشاعر الطبيب:
أ ذكيت يا آسي العيون * فؤاد صب مكتئب أ ذكرتني عهد الشباب * وما قضيت من الإرب فمن الرباع إلى اليفاع * إلى التلاع إلى الكثب ومن الخصور إلى النحو * ر إلى الثغور إلى الشنب حيث الهوى غض تهز * خطاه اعطاف القضب والروض تصقل زهره * أيدي الرباب المنكسب والسرب من عفر الظبا * يبدو وآخر ينسرب ويقول فيها:
أ رأيت كيف العلم اطلع * من شموس لم تغب ركبوا الهواء ومهدوا * طرق الهواء لمن ركب وتناولوا هام السماء * ومزقوا شمل السحب باتوا وبات وليدهم * في المهد يهزأ بالنوب فمن المهاد إلى النجاد * إلى الطراد إلى الغلب ومن الأديم إلى الغيوم * إلى النجوم إلى القطب وأول ما نظم في مصر قصيدته التي يقول فيها:
ولما نقلنا للبواخر رحلنا * وعفنا المطايا وهي عجفاء ظلع هجمنا على جيش من الموج ضارب * بزخاره نحو السما يترفع يطالعنا من كل فج كأنه * جبال شروري أقبلت تتقلع ولما تبينت السويس وسار بي * إلى النيل سيار من البرق أسرع هرعت إليه ثانيا من حشاشتي * وقلت لصحبي هذه مصر فاهرعوا وله:
فكم قائل سر نحو مصر تر المنى * وأنت على كل البلاد أمير فقلت لهم والدمع مني مطلق * أسير وقلبي بالعراق أسير وله:
ردد الذكرى وحيا البطلا * ومضى في قوله مسترسلا شاعر مطلقة أدمعه * وجد الدنيا له معتقلا : عبد المحسن الصوري توفي سنة 419.
أحد اعلام الشعر العربي في عصره،