مثيل لهذا العصر في تاريخ المغول كله من هذه الناحية وقد نسب رشيد الدين من أجل ذلك إلى مناصرة المتفلسفين الزائغين عن الاسلام وحامت الشبه حوله وحول أصحابه في هذا الشأن ولم يسلم ابن الفوطي نفسه من ذلك كما أشار إليه غير واحد من المؤرخين وكتاب ابن الفوطي هذا من خير ما يعول عليه في الاطلاع على مظاهر التفكير في ذلك العصر. وهذا ما قاله في ترجمة عضد الدين الإيجي من الكتاب المذكور: عضد الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار يعرف بالمطرز الإيجي الفارسي من البيت المؤسس على العلم والفضل والفتيا قدم الحضرة بالسلطانية سنة ست وسبعمائة وحصل له القرب والاختصاص بحضرة الوزير الكامل رشيد الدين بن فضل الله بن أبي الخير بن عالي الهمذاني وهو يتبعه في فنون العلم والحكمة والآداب وبعد الهمة، أقام في مخيمه ينزل بنزوله ويرحل برحيله ويقول بمقاله وينتمي لرأيه. كان يدمن شرب الخمر ويتفلسف ولا يقول بالشريعة المحمدية وبذلك فارق أباه قاضي ايج واشتهر بالفجور وشرب الخمور وفارق اعتقاد الجمهور واتهم رشيد الدين بذلك ونسب إلى اعتقاده فنفاه إلى كرمان ليسلم من كلام الناس وهيهات.
انتهى كلام ابن الفوطي. وقد انفرد هذا المؤرخ بأسلوبه الجميل في النقد الصريح، وكلامه المذكور يدل على ذلك وقد كشف فيه عن هذه الناحية من حياة عضد الدين الإيجي وأيد نسبه المؤرخون لرشيد الدين من حمايته لفريق من المتطرفين في الآراء والمذاهب الفلسفية وقد شنع عليه خصومه بذلك سواء في حياته أو بعد مقتله في المؤامرة التي دبرت من قبلهم وأشرف عليها السلطان أبو سعيد نفسه، والى ذلك أشار ابن الفوطي في قوله ليسلم من كلام الناس وهيهات. هذا وينتمي الإيجي المذكور إلى بيت كبير وقد اشتهر بمؤلفاته الكثيرة في الفقه والحكمة وكثير منها من كتب القراءة أو من الكتب المقررة في الدراسة كما نقول نحن في هذه الأيام ومنها ما يدرس الآن في بعض الزوايا والمعاهد العلمية القديمة مثل كتاب الموافق وجواهر الكلام، كما عرف بثروته الطائلة وبسخائه خصوصا على طلبة العلم وقد مات عضد الدين في منفاه بكرمان.
أقام ابن الفوطي بعد حادثة الإيجي المذكورة وهي الحادثة التي رواها كما شاهدها عن كثب مدة طويلة إلى جانب صاحبه رشيد الدين في تبريز مثابرا على الدرس والتآليف وقد وضع قسما من معجمه في التراجم خلال أيام اقامته فيها والغالب انه اشتغل تحت إشراف رشيد الدين في بعض ما انشاه من المعاهد العلمية أو دور الكتب ولذلك يدعوه شيخنا المخدوم الأعظم في كثير من مواضيع المعجم المشار إليه.
كان بين من اتصل بهم ابن الفوطي في تبريز الأمير غياث الدين محمد بن رشيد الدين المذكور مؤسس المدرسة الرشيدية وهو يصف لنا إحدى الحفلات التي حضرها في المدرسة المذكورة بدعوة منه واليك ما يقوله عنها في ترجمة الأمير المذكور غياث الدين أبو شجاع محمد بن الوزير رشيد الدين فضل الله بن عماد الدولة أبي الخير بن عالي الهمذاني الأمير الكامل والرئيس الفاضل استدعاني إلى خدمته ليلة النصف من شعبان الواقع سنة ست عشرة وسبعمائة بالمدرسة الرشيدية في جماعة من الأعيان والعلماء والأكابر الفضلاء فصلينا في داره العامرة ولما انقضت الصلاة تقدم باحضار أهل الطرب وما يتعلق بأسباب الجمعيات من الفواكه وأنواع المشارب وأحيينا تلك الليلة في خدمته.
انتهى كلامه وهو كلام مؤرخ يدين بمذهب الصراحة قولا وعملا ويمقت الرياء فيما يكتبه عن سيرته خلافا لمعظم من كتبوا سيرتهم من العلماء والمحدثين ومن ذلك يعلم أن ابن الفوطي خلق ليكون إماما له طريقته وأساليبه الخاصة في التاريخ ولم يخلق ليكون محدثا أو فقهيا فحسب ولهذه العلة صار هدفا لسهام المحدثين وطعن من طعن منهم في عدالته وعقيدته وحوسب على قلة تحرزه واحتياطه وتمرده على العرف والعادات المألوفة.
وفي هذه السنة المشار إليها سنة ست عشرة وسبعمائة مات السلطان خربنده في تبريز فاشتد بموته التنافس وكثرت الدسائس بين احزاب المغول وتضعضع مركز صاحبه رشيد الدين بل عزل فعلا فسافر ابن الفوطي إلى بغداد ثم رجع إلى السلطانية وتبريز سنة سبع عشرة وسبعمائة وقد تضاءل شأن صاحبه المذكور وشرع خصومه بتنظيم المؤامرة التي أفضت إلى قتله سنة ثماني عشرة وسبعمائة وذلك في أيام السلطان أبي سعيد.
ليس يعنينا من نتائج هذه الفتنة التي قتل فيها رشيد الدين الا ما يتعلق بمؤرخنا المشار إليه أو بتاريخ تلك النهضة العلمية التي ازدهرت في عهده فقد ذهبت الحادثة بكثير من آثار صاحبه رشيد الدين وأحرقت كتبه وكانت له مكتبة فيها خمسون ألف مجلد والأنكى من ذلك ان تذهب بكثير من كتب ابن الفوطي وآثاره طعمة للنار في تلك الحادثة الهوجاء على ما يتراءى لنا فيذهب بذهابها تاريخ العراق بل تاريخ حضارته في تلك العصور ولا يصل إلينا منها الا النزر اليسير.
ليس لدينا الآن من آثار ابن الفوطي التي بلغت المئات وملأت الخزائن في أيامه الا اجزاء يسيرة ومما يدعو إلى العجب انها وجدت في أماكن نائية عن العراق فلا يعرف له الآن إلا الحوادث الجامعة وقد وجدت نسخة الأصل في القاهرة وجزء من معجمه في التراجم وقد وجد في الشام ويوجد جزء من تاريخ الكامل لابن الأثير بخطه في المكتبة الأهلية بباريز ولا سبب لضياع آثاره فيما نرى الا فتنة تبريز التي قتل فيها صاحبه رشيد الدين فاحترقت كتبه كما احترقت في الفتنة المذكورة كتب صاحبه المذكور ولا سيما إذا علمنا بأنه ألف كثيرا من كتبه خلال اقامته الطويلة في حواضر المغول.
ويبدو لنا انه زهد في الإقامة بآذربيجان بعد الحوادث المذكورة وعزم على قضاء أواخر أيامه في بغداد فغادر تبريز إلى بغداد وتوفي بعد مضي خمس سنوات على حادثة تبريز ودفن رحمه الله في مقابر الشونيزية مقابر الصوفية والصالحين.
2: الشيخ عبد الرسول الصايغ ابن عبد المطلب ابن أخي الشيخ أسد الله الصايغ وبقية النسب مذكورة في ترجمة الشيخ أسد الله الصايغ توفي سنة 1349 وله أشعار منها:
اصفو العيش هلا كنت شخصا * لطيف الشكل تظهر للعيان لننظر ما لديك من المزايا * ونأنس في معانيك الحسان ونرجوك المضيف ولو عشاء * وقبل الصبح ترحل في أمان وكان علي عهد ان تزرني * اقبل منك أطراف البنان واخدم طبعك المألوف دهرا * مطيعا ما حييت بلا امتنان